
العجب عبدالكريم العجب
كاتب صحفي
• دلفت إلى باب المدينة صباحًا متأخرًا، قاصدًا ذاك الظل الذي يجد كل تائه ضالته فيه. ومنذ خروجي، فردت أشرعة الشارع ذراعيها لاحتضان العافية التي ظلت تستجديها مع بداية الخريف، ولم تنل غير الوعود (أملًا) والظهور الإعلامي عنوانًا، حتى صار الاستجداء سمة كل المدينة.
مررت في طريقي بأحد الأصدقاء، متفقدًا دواعي غيابه. طرقت الباب وكررت الطرق مرات، ولم أجد ردًا، برغم سماعي لصوت خافت كأنه أتى من قاع سحيق. ما دعاني للدخول، وعند ولوجي سمعت من ينادي «تفضل» بذات الصوت الآتي من العمق البعيد. دلفت إلى الغرفة متتبعًا ذاك الصوت، وعند الدخول وجدت أنني في إنعاش بأحد المشافي، من عدد المحاليل الوريدية المعلقة على أجساد أهل البيت.
بعد التحية والأمنيات بالشفاء، سألت: «ليكم كم يوم على هذه الحالة؟» رد أكثرهم مقدرة على الكلام «يااااه، طولنا أكثر من عشرة أيام، فقدنا فيها من يقوم على شؤوننا وقضاء احتياجاتنا، لكن الحمد لله على كل حال. حمى الضنك دكت حصون العافية عندنا وقدت جيوبنا!! تصدق، كلفة علاجنا ثلاثة أفراد من البيت تفوق الخمسمائة ألف جنيه، وهذا لعمري عبر بوابة التأمين الصحي والمستشفيات الحكومية. صارت صحة الناس هذه الأيام موردًا لرزق ضعاف النفوس وتجار الأزمات، حيث فاق سعر حقن الملاريا حدًا قارب سعر جرام الذهب، ودربات البندول أصبح البحث عنها يحتاج خبير أثر.
خرجت وأمنياتي لهم بالشفاء تسبقها دعواتي على من جعلونا نستجدي الاستشفاء ونلهث خلف هؤلاء الرعناء. واصلت سيري نحو الظل والرأس حائر بين ضنك العيش وحمى الضنك التي لم تبق ولم تذر، وفي ذهني صور لأسر قوتها في قوة كف عائلها من بعد الله، فكيف يكون حالهم وعلاجهم لو أصيبوا بهذه الحمى.
حمي الضنك والحرب في بلادنا سيان، كلاهما يقضي على الدم، الأولى بضرب صفائحه، والأخرى بضرب جسد حامله. عجبي ولهفي عليك بلدي. وصلت إلى الظل وجدت النقاش على أشده، كلّ يحكي معاناته ومعارفه حول الأسعار وما أصابها من سعار، وخاصة أسعارك يا علاج. جلست مستمعًا، وأخذ النقاش جانبًا آخر في معاناة إنسانك يا أكرم شعوب العالم.
حيث غير مساره واحد من مكتوي الأسعار والرسوم والجبايات، قال: «ياااخ انتو في العلاج وأسعاره ولا التعليم ورسوم ناره يا إخوان، أنا عندي واحد في الجامعة فرحان به قلت خلاص قرب للتخرج يسندني، مفروض يتخرج قبل أكثر من سنتين. مشيت الجامعة سمع بالامتحانات من زملائه، لقى رسوم الامتحانات مائة وخمسين ألفاً، وعندي الصغيرة ممتحنة من المتوسط للثانوي رسوم امتحاناتها خمسين ألفاً. والأنكأ والذي يدمي القلب ليس هناك إعفاء أو استثناء، وتم طرد البنات من المدرسة، وهددوا بعدم جلوسهن إذا لم تسدد الرسوم.
وختم حديثه بسؤال ظل صداه يتردد بين الحضور الذين ألمهم حد البكاء هذا الكلام. وقال: «الشعب العائش بين نارين رسوم الدراسة وأسعار العلاج هل يلقى زولًا يطفئ نيرانه؟»، الشعب الملهم المعلم الذي كان يغني «(أصبحنا رغم البين روح واحدة في جسدين)» محبة وتكاتف ووحدة، أصبحت ذات الأغنية «(أصبحنا رغم الضيم روح واقعة بين ضنكين)»، المعيشة ورسم الدراسة والعلاج.
وسؤالنا نرفعه للذي بيده ملكوت كل شيء سبحانه جل جلاله.. يا رب.
ودي وإلى لقاء في براحات ضل أرحب.
شارك المقال