
د. خالد مصطفى إسماعيل
كاتب صحفي
• قالت المؤرخة الأمريكية جانيت إيوالد الآتي:
(لقد أصبحت مهتمة بتقلي لكي أعرف أكثر عن تكوين الدولة والتفاعل الاجتماعي في جبال النوبة، الذي يمكن به تجاوز الانقسام المتوقع بين شمال السودان وجنوبه، وغموض المملكة راق لي أيضاً).
وجانيت إيوالد هي طالبة دراسات عليا أمريكية، جاءت إلى تقلي في العام ١٩٧٧م، ومكثت فيها لمدة عامين (١٩٧٧ – ١٩٧٩م)، طافت فيها معظم مناطق المملكة، وتعلمت اللغة المحلية، والتقت خلالها بمعظم المؤرخين المحليين وكبار السن، ثم عادت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكتبت أطروحتها بعنوان:
«الزعامة والتغيّر الاجتماعي في منطقة إسلامية، مملكة تقلي – ١٧٨٠ – ١٩٠٠م».
وهو عبارة عن بحث نالت به درجة الدكتوراه من جامعة ويسكونسن بالولايات المتحدة الأمريكية، وترجمه إلى العربية باشمهندس معاوية عبد الرحمن الزيبق.
والمدهش حقاً أن جانيت تنبأت بانفصال الجنوب منذ ذلك الوقت ١٩٧٧م (قبل تكوين الحركة الشعبية، والجيش الشعبي لتحرير السودان بأكثر من خمس سنوات)، وانتبهت لهذه القضية، وحاولت معالجة هذا الانفصال عبر أطروحتها هذه، ودراسة تاريخ مملكة تقلي الذي من خلاله ستعرف تكوين الدولة والتفاعل الاجتماعي في جبال النوبة، والذي به ممكن تجاوز ذلك الانفصال المتوقع. فتأملوا!
والمدهش أكثر عندما ذكرت جانيت هذا الحديث، كانت هناك اتفاقية سارية المفعول بين الشمال والجنوب، وقعت في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، أي أن في ذلك الوقت لم تكن هناك حرب في السودان إطلاقاً لا في الجنوب ولا غيره، وتلك الفترة تعد من الفترات البسيطة التي شهد فيها السودان سلاماً تاماً، واستطاع الساسة إسكات صوت البندقية.
والمؤسف حقاً أن جنوب السودان قد انفصل فعلاً، بعد أكثر من ثلاثين عاماً من كتابة جانيت هذه الأطروحة، وذلك في استفتاء تم في يناير 2011 م، وأعلنت دولة جنوب السودان رسمياً دولة مستقلة في يوليو 2011 م. بعد أن نزف السودان الكبير (شماله وجنوبه) كثيراً من الدماء والدموع، وغرق في المعاناة.
وأنا أتساءل هل قرأ الساسة السودانيون أطروحة جانيت هذه؟
أم قرأوها ولم يفهموها؟
وهل للخواجات (قرنا استشعار) يستشعرون بهما الأخطار عن بعد ويتنبأون بها، ونحن حرمنا من ذلك؟
أم لهم (حاسة سادسة) يدركون بها الأشياء قبل أن تحدث؟
وإلا كيف نفسر إحساس هذه الطالبة الأمريكية بخطورة انفصال الجنوب والعمل على تلافيه، بينما ساستنا في نوم عميق، حتى أتاهم الطوفان وانفصل الجنوب!!
هذه الخواجية (جانيت) كانت تعي ما تقول، كانت تعرف أو تفترض أن المدخل لوحدة السودان هي جبال النوبة، والمدخل إلى جبال النوبة هي تقلي، وبالتالى لا بدّ من معرفة تكوين الدولة والتفاعل الاجتماعي في هذه المنطقة، ومن خلالها يمكن صياغة مشروع لوحدة الدولة السودانية، يستند إلى ركائز أساسية وحقيقية، وليس على أوهام السياسيين وأحلامهم وتمنياتهم التي لا تستند إلى واقع، وتنكر حقيقة الأشياء بناء على هوى النفس.
فالدكتورة جانيت جاءت لتفتح عيوننا على بلدنا، ولكننا أبينا إلا أن نغمض أعيننا، ونحلم بوطن جميل دون أن نعرف هذا الوطن معرفة حقيقية، فهل السياسيون السودانيون لا يقرأون؟ أم أنهم إذا قرأوا لا يفهمون؟!
لا نريد أن نتلاوم على انفصال الجنوب، فقد مضى جنوب السودان إلى حال سبيله، وأصبح دولة مستقلة ومعترفاً بها رسمياً، ولكن وكما يقول المثل السوداني (الجفلن خلهن أقرع الواقفات)، فموضوع تشظي السودان أصبح مخيفاً أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع نشوب واستمرار هذه الحرب اللعينة، ولضمان وحدة السودان لا بدّ من إدخال دور الأكاديميين، لدراسة المجتمعات السودانية، ودراسة تاريخ ومراحل السودان منذ الحقبة الحجرية، مروراً بتكوين الممالك النوبية، والتحول إلى المسيحية، ودخول الإسلام، والممالك الإسلامية، وفترة الاستعمار التركي والدولة الخديوية، والثورة المهدية، والاستعمار الإنجليزي المصري ومن ثم الدولة الوطنية الحديثة.
هذه الدراسات الأكاديمية قد تفيدنا في معرفة ماضينا، وحاضرنا، لنفكر جدياً في مستقبلنا، ونتوافق على عقد اجتماعي قوي، ودستور رصين مرضٍ للجميع.
أما الرهان على السياسيين وحدهم لبناء دولة محترمة فهو رهان فاشل، لذلك لا بدّ من إشراك الجميع في بناء الدولة الحديثة ما بعد الحرب، ولا بدّ من الاعتراف لكل ذي حق بحقه، من أجل وطن يسع الجميع.
والسلام.
شارك المقال