بين الحنين والصمود: قراءة لأغنية (أنت ساكن في فؤادنا) في زمن الحرب (فيديو)

29
عاصم البنا
Picture of أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

المقدمة


منذ اندلاع الصراع المسلح في السودان أبريل 2023، تغيّرت ملامح الحياة اليومية وترنّحت أقدام الملايين بين رحى النزوح وخشية القذائف. في هذه الأجواء الملبّدة بالدخان والخوف، تبرز قوة الكلمة وتظلّ الأغنية وطنًا ثانيًا يواسي القلوب القلقة. تُعدّ أغنية “أنت ساكن في فؤادنا” للشاعر صلاح أحمد محمد صالح، التي أداها عاصم البنا، ترجمة صادقة لنبض الشارع السوداني، يمزج فيها الشاعر بين حب الوطن العابر للمسافات وحنين القلب الثائر رغم وجع الحرب.
تبدأ القصيدة بدعوة صامتة لاحتضان الماضي الجميل، قبل أن تستعرض في صور أخّاذة تضاريس البلاد، من سَهْل البطانة إلى مروج كسلا، فتربط بين جغرافيا الوطن وهويته الجامعة. ومع تصاعد الصراع وتشرذم النسيج الاجتماعي، تأتي هذه الأبيات شاهدةً على صمود الإنسان ووفائه لأرضه رغم القسوة، إذ تتحول الكلمات إلى نبضٍ يُمدّ روحه بالقوة والسكينة.
سنسعى في هذا المقال أولاً إلى استكشاف المعاني الشعرية والصور الجمالية التي احتضنتها كلمات الأغنية، ثمّ ننتقل إلى قراءة خاصة تستحضر واقع الحرب وتأثيره على الشاعر والمستمع، وصولاً إلى اقتراح أفق أمل جديد ينبع من دعوة الوحدة والعودة إلى الوطن مهما طال البعد وأظلمت الليالي.


أنت ساكن في فؤادنا
حتى عندما اضطر مئات الآلاف للنزوح داخلياً أو اللجوء في المخيمات المحاذية للحدود، يظل حب الوطن نابضاً في القلب، كنبضٍ لا تتوقف دقاته ولا يفلّه سكون الخطر والقذائف.
ونذكرك في كل ليلة
في ليالي المخيمات المظلمة، حين يختلط صوت القذائف بصمت الرمل، تتحول ذكرى الوطن إلى قصيدة تُروى في الخيام، فتخفف وطأة الغربة عن نفوس النازحين.
أنت روحنا وأنت زادنا
حين تنقطع المساعدات الإنسانية وتضيق المعيشة، يُصبح استحضار نيلٍ صافٍ وغزلٍ يانعٍ في الذاكرة غذاءً روحياً يمنح الصمود ويثبت الخطى في خضم الجوع والخطر.
وأنت دنيانا الجميلة
رغم أن البيوت تهدّمت والأحياء تحولت إلى أطلال، تحيّر الكلمات صورة السودان قبل الحرب: أرض تمنح الأمن والفرح، فتتحول هذه الصورة في النفوس إلى وعدٍ بإعادة البناء بعد اتساع دائرة الدمار.
مهما غبنا وطال بعادنا
يلخص هذا البيت معاناة الملايين الذين قضوا ليالٍ طويلة في الخيام أو في ضواحي الخرطوم المدمرة، ومع ذلك لم يضعف شوقهم لليوم الذي تعود فيه مواكب العودة عبر الطرق المليئة بالحواجز والألغام.
أنت يا سودان حبيبنا
داخل كل خيمةٍ في وادي حلفا أو دارفور، ترفع الصور وعلامات الشوق؛ فالنداء هنا ليس مجرد دعوة لزيارة، بل تأكيد على أن السودان لم يتخلّ عن شعبه حتى بعد أن خيّم الموت فوق ربوعه.
أنت يا مرتع صبانا
أحلام الأطفال الذين تربوا بين دفء الأسرة وتحت ظل النخيل اليوم مرتبطة بخطر الألغام والتفجيرات، لكن تذكرة الشاعر بمرتعل الصبا تحرّك فيهم الأمل بالمستقبل وبعودة أمان اليارا إلى قراهم.
بيك رب الكون حبانا
في زمن انفلات القانون وانقطاع المياه، يجد كثيرون ملاذهم في الدعاء والتضرّع، متذكرين “منح” الله لوطنٍ كان يوماً ما منبراً للحوار والتعايش.
نجمك الساطع وبدرك
حين تكون سماء العاصمة مغطاة بالدخان ودوي المدافع يطغى على هدير الليل، تصبح تلك النجوم في القصيدة رمزاً لوعد الصفاء الذي ينتظر السودان بعد انجلاء الحرب.
ونيلك الساحر سبانا
مع اعتداء بعض المجموعات المسلحة على ضفاف النيل وانقطاع الكهرباء عن محطات ضخ المياه، تهيمن صور النيل الهادئ على مخيلة المنكوبين، ويصبح ذكره دواءً لقلوب تاقت إلى رشفة ماءٍ نظيف.
وأرضك الطاهرة وحنونة
رغم تلوث التربة وتسرب الوقود من عربات الجيش المدمرة، يحمل النازحون صورة الأرض الأم في الذاكرة، فيعملون – حين أُتيحت لهم فرصة العودة – على تطهيرها وإعادة زرع البذور.
فيها أحلامنا وصبانا
تحولت مزارع الصبا التي كنا نركض فيها خلف الفراشات إلى ملاجئ مؤقتة للمهجرين، لكن الذكرى تولّد فيهم عزيمةً جديدة لبناء حلم الفلاحين من جديد بعد تهجيرهم.
وفيها واحتنا الظليلة
عندما يستحيل الوصول إلى واحات كردفان بسبب الخطر، يتذكّر النازحون دفء الظلال تحت النخيل، ويتمنّون لو ينسحب القتال إلى غير هذه الديار كي تعود ملاذاً آمناً.
كل ما تبعد خطانا ليك يتجدد هوانا
كل يومٍ إضافي في الخيمة أو في مخيمات تشاد يزيد الألم، لكن هذا الألم نفسه يذكّرنا بأن الوطن أغلى من أي مهرب، وأن الشوق هو وقود العودة.
ونهفو لي أرض البطانة
صدى مكبات القنابل وأحزمة الأمان المزروعة في حقول القمح لم يستطع أن يطفئ لأنات المزارعين الذين يحلمون بتلمّ شتات الأرض وعودة الحراثات.
ولي مروج كسلا وجنانا
حين اجتاح الصراع المناطق الشرقية، انهارت شبكات الري وقلّ العشب الأخضر، لكن الحديث عن “جنانا” يغدو تعهدًا بألا يترك أهل كسلا أرضهم بدون أن يُعيدوا الحياة إليها.
للجنوب أهلنا المعانا
رغم الاشتباكات في ولاية جنوب كردفان والنيل الأزرق، يظل الجنوب رمزاً للتنوع والوحدة، وتذكّره الأغنية يشحذ الروح لإشراك جميع الأطراف في بناء سلام مستدام.
ولي ديار الفور حدانا
دارفور التي شهدت نزوحاً منذ عقود، غدت اليوم ممراً لخريطة انفجارية جديدة، لكن ذكر “حدانا” هو نداء لوقف النزيف وإحلال الأمن بدل الانقسام.
وأنتي يا أم درمان والخرطوم وبحري الأمانة
حين صارت هذه المدن هدفاً مباشراً للمعارك، تحمل الكلمات دعوةً للمواطنين والفاعلين إلى تحمل مسؤولية إعادة صون العواصم وحمايتها كواجب وطني.
والسلام عندك أمانة
يُجسّد السلام هنا كواجب مقدس في مواجهة ثقافة القتل والانقسام، فإرساء السلام بعد الحرب يصير أضخم من أي اتفاق سياسي، إنه عهد أخلاقي واجتماعي.
لجميلاتنا وحسانا
في قاعة المستشفيات الميدانية ومراكز الإيواء يلتقي الشطر النسائي المعبر عن الأمل والألم؛ فالإشارة إلى جمال “حسانا” هي تذكير بحقوقهن وأهمية مشاركتهن في بناء السلام.
في بوادينا وقرانا بلغيهم يا حبيبة بإشتياقنا وبي وفانا
تتجسد هنا الوساطة الاجتماعية بين الحضر والريف، حيث يوزع النازحون رسائل الحنين على أهالي القرى، ويطالبونهم بعدم نسيانهم في خطط العودة والإعمار.
مهما ليل الغربة أليل
يلخص هذا البيت قساوة انتظار نهاية الصراع، وكل ليلة تمر تزيد من عزم النازحين على الثبات إلى حين انقشاع “ليل الحرب” ورؤية شمس السلام.
بكره نرجع لي ربانا
الوعد بالعودة يصبح خطاباً جامعاً يلتف حوله كل المهجرين، فمن خرطوم إلى دارفور، يزرع هذا البيت في القلوب يقيناً بأنه بعد طول كربٍ سيعود الجميع إلى أحضان الوطن.
ونشدو بالزين والعديل
خاتمة تبث رسالة العدالة والجمال، فتجمع الشوق إلى “زين” الحياة و”عدالة” السلام، لتكون دعوة أخيرة لبناء سودان مُنصف ومزدهر بعد انتهاء الحرب.
الأغنية ليست مجرد مدح للوطن، بل دعوة للتآلف والوحدة عبر الإشارة إلى تنوع أقاليمه وسكانه، والتذكير بأنّ السودان يجمعنا مهما تفرّقنا، وأنّه يستحقّ منّا الوفاء والشوق والعودة.
يبقى الصوت الذي يرتل هذه الكلمات عاملاً مهماً؛ فصوت الفنان عاصم البنا يمنحها دفئاً وتلقائية تنسجم مع محنة الشعب. الأداء الحنون يعيد رسم علاقة المواطن بوطنه كحوار دائم، يتبادل فيه الشاعر والمستمع الأدوار من سؤال عن الحاضر ووعد للمستقبل، في لغة تجمع وتئد كل صوت يحاول التفرقة. بهذا التوزيع الفني والكلمات الحانية، تصوّر الأغنية السودان ككائن حيّ نابض في قلب كل مواطن، يستحقّ أن يظلّ حبّه خالداً رغم المسافات والأزمنة.
تُختتم قراءة أغنية “أنت ساكن في فؤادنا” بتأكيدٍ نهائي على أن الكلمات ليست مجرد تعابير جمالية، بل سلاحٌ روحيّ يصمد في وجه ركام الحرب. عندما يجتمع حب الوطن الثابت في الفؤاد مع رؤى الشاعر لليالي السود، ينهض نصّ صلاح أحمد محمد صالح كجسر يعبر فوق جراح الأرض ويجمع الشتات. في ختام هذا المقال، يظلّ درس الأغنية قائماً: أن تماسك الشعوب لا يولد من السلم وحده، بل يقوى في وجه الفتن، وأن العودة إلى ربى السودان ليست أمنيةً عابرة، بل عهدٌ يستحقّ الصمود والعمل على بنائه من جديد، بسواعدٍ تضاهي قسوة التجارب وثبات العزائم.
إنّ أغنية “أنت ساكن في فؤادنا” تتجاوز كونها نصّاً وطنياً رومانسيّاً، لتصبح محاولةً مرهفةً للتنفيس عن آلام الشعب السوداني جراء الحرب اللعينة. فتجسّد الكلمات سلاحاً روحياً، يغزل جسوراً من الأمل فوق ركام الدمار، ويمنح النازحين في الخيام والمخيمات فسحةً من السكينة وسط صخب الصواريخ.
عندما يرددُ المستمع “مهما غبنا وطال بعادنا… بكره نرجع لي ربانا”، لا تكون هذه مجرد عبارةٍ شعرية، بل عهدٌ جماعيٌّ يربط الشتات بروح الوطن ويغذّي عزيمة العودة والعمل على إعادة البناء. وفي هذا السياق، تتحوّل القصيدة إلى متنفسٍ جماعيٍّ يطلق صرخات الحنين والوفاء، ويؤكد أن التضامن والصمود هما السبيل الأوحد للخروج من ليل الحرب الطويل إلى فجر السلام المنشود.

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *