• طالما كتب علينا أن نكون شهودا لهذه الحرب غريبة الشكل مطموسة المحتوى وأن نكون أحد اطرافها باعتبارنا الطرف المتضرر ،فلا أقل من بحث مستمر عن حكمة يصعب العثور عليها في غمر ة الأهوال وما جعل الحرب فجيعة وأي فجيعة.
وصلنا بورتسودان عصر يوم كان ختام رحلة الحزن التي بدأت من الدويم على اثر سماعنا وفاة عزيز كان يهفو لبيته في الخرطوم عندما وافته المنية في بورتسودان عليه رحمة الله الواسعة. وصلنا مدني ثم كسلا وأخيرا بورتسودان .. لو أن أحدهم أخبرني قبل سنوات قبل الحرب بأنني ساقوم بتلك الرحلة في يوم ما لاعتبرت كلامه من قبل المزاح وتزجية الوقت و ربما قلت لنفسي ان الثغر يغري بالسياحة ولكن لم يكن ذلك في الحسبان . فنحن لم نستوعب فقه السياحة ولا جعلناها احد اسباب الترفيه حتى جاءت الحرب وعلمتنا كم نحن نجهل الكثير عن وطننا.
غادرنا البص السياحي وجلسنا على مقاعدهم في باحة صغيرة ونظيفة لم يخرب تناسقها سوى ارتال الذباب التي تحط في كل مكان بقوة عين عجيبة. عرفنا فيما بعد أن ذلك موسم قد لا يمتد الا بما يكفي لاثارة الغيظ والشكية. وصول شقيقي والسيارة المغلقة النوافذ أخرجنا من فوضى الذباب لتبدأ رحلة الشغف بتلك المدينة الساحلية التي تدور الهمسات وشمارات الميديا عنها بأنها ستكون العاصمة الإدارية او بديل العاصمة التي كانت وقد غادرناها ونزحنا للدويم وبقينا فيها شهورا.
ذلك ما اخبرت به بائع العبايات الحريمية في السوق المزدحم بكل السحنات والملامح. أخبرته إجابة على سؤاله بأننا من الخرطوم وكنا هناك إلى أن هاجمها المتحاربون. قال لي وعيناه تلتمعا ببريق يؤكد ما يقول وهذا ما سيحدث هنا. أظنه الهلع في نظراتي الذي جعله يضحك ويعود إلى عباياته ويؤكد لي بأنه يمزح فقط وأن بورتسودان امان.
ذلك ما اكدته لنا حركة السيارات المنتظمة ورجال الشر طة والمطاعم الصغيرة الانيقة والصيدليات التي تجد فيها كل ما تريد والمستشفى الذي يتوفر فيه كل التخصصات وشوارع تذكرك بشارع الجمهورية، وتلك الألفة التي تننشأ بينك والأماكن وهواء الصباح العليل وادروب يصنع قهوته في الشارع ويعزمك عليها ثم تلك الحفاوة والسماحة التي يحيطك بها جيرانك من اهل البورت وحي المطار وتلك الرحلة لساحل البحر حيث ترى البواخر تمخر عباب البحر بدعة وهدوء كأن الحرب لم ولن تجد طريقها إلى هنا.
وها نحن الآن نطالع أخبار الفضائيات والسوشيال ميديا وتصدمنا حتى الوجع فيديوهات الهجمات .. على ماذا؟ لا نعرف ولا نريد أن نعرف ومن سيقول لنا إن أردنا أن نعرف؟ كل ما يدور يفتقد الحكمة التي تجعل من اهداف هذه الحرب العجيبة امرا مفهوما. ونظل في غربتنا وبلكونتنا لا نملك سوى الدعاء. اللهم احفظ بورتسودان وأهل بورتسودان وكل السودان يا حافظ يا حفيظ إنك مجيب الدعاء.