د. خالد مصطفى

د. خالد مصطفى إسماعيل

كاتب صحفي

• من الأمثال الشائعة في مملكة تقلي، يقولون إن  تقلي (بلد الجرون والقرون)، ويقصدون بالجرون (جرون العيش) أي الذرة، ومفردها (جُرن) بضم الجيم، وهو المكان الذي يتم فيه تجميع قناديل الذرة بعد حصادها، ويرمزون بالقرون للأبقار أو البهائم على وجه العموم، في إشارة ذكية للتعايش المثالي الذي كان يسود المنطقة بين المزارعين والرعاة. 

ففي الغالب كان الممارسون لمهنة الرعي هم القبائل الرعوية المعروفة في السودان بالقبائل العربية، ومعظم الذين يمارسون مهنة الزراعة هم القبائل النوبية وبقية القبائل  الأفريقية، وبرغم ذلك لا توجد حدود وفواصل  مهنية واضحة، فمثلاً القبائل النوبية والأفريقية تمارس الزراعة باعتبارها مهنة رئيسية، ولكنها تمارس الرعي أيضاً باعتباره مهنة ثانوية، لذلك نجد معظم المزارعين يمتلكون عدداً من الأبقار أو الأغنام أو الضأن أو كلاهم، وذلك لتوفير المنتجات الحيوانية كاللبن، والروب، والسمن والجلود وغيرها، وكذلك القبائل العربية الرعوية يمارسون الرعي كمهنة أساسية، والزراعة كمهنة ثانوية، حيث يزرعون مساحات صغيرة من الأرض لتوفير الذرة وبعض المنتجات الزراعية لسد احتياجاتهم. 

وأحياناً يحصلون على  هذه الاحتياجات من خلال عمليات التجارة وتبادل المصالح فيما بينهم، فيأتي الرعاة بالبهائم واللبن ومشتقاته من روب وسمن وغيرها، ويشترون الذرة والمنتجات الزراعية من المزارعين في عملية تكاملية ممتازة. 

وكانت هذه العملية تدار بفعالية بواسطة المكوك والعمد والشيوخ، ولاحقاً بواسطة المكوك والعمد والشيوخ  والحكومة معاً، لتنظيم مهنتي الزراعة والرعي، بالإضافة إلى الأسواق والطرق،  بما يحقق المصلحة للجميع. 

فكان المك أو العمدة شيخ القرية المعيّن يصدر مرسوماً سنوياً،  يحدد فيه أماكن الزراعة، ومسارات الرعي، وموعد البدء في الزراعة، وموعد رعي الحيوانات؛ لمنعها من إتلاف الزرع، وتحديد الغرامات على مخالفي هذه القوانين.

ونتيجة للعلاقة الطيبة التي كانت تسود بين المزارعين والرعاة، بفضل القوانين الواضحة والملزمة للجميع، والعدالة في تطبيقها، وتربية وتهذيب النفوس بعدم المساس أو الاعتداء على حقوق الغير، لكل ذلك  بنيت علاقات مميزة بين الأطراف؛ 

لدرجة وصل الأمر أن المزارعين الذين لديهم أبقار يرسلون أبقارهم مع الرعاة إلى أماكن بعيدة في كردفان، يقضون فيها فصلاً كاملاً ثم يعودون، وتكون الأبقار قد زادت ونمت، وفي الوقت نفسه يعتني المزارعون بزراعات الرعاة، وعندما يعود الرعاة يجدون محصولاً وفيراً من زراعاتهم يكفيهم لبقية العام، وتخزن هذه الذرة والمنتجات الزراعية  في مخازن داخل حيشان القبائل المستقرة تسمّى (السويبة)، وهكذا كانت العلاقة، وكان التعامل، مثالاً للتعايش السلمي، والتكامل وتبادل المصالح. 

و كان في السابق إذا حدث أي تلف لزراعة ما بسبب الأبقار، يبحث صاحب الأبقار عن المزارع حتى يجده ليوفيه حقه، وغالباً  ما يعفو المزارع ولا يدفع الراعي أي غرامة، وربما ينتهي الأمر إلى معرفة وصداقة، والقصص في ذلك كثيرة، لا مجال لحصرها.

وكثيراً ما يأتي الرعاة إلى المزارعين قائلين لهم (راجعوا زراعاتكم، نحن لقينا عيش في بعر بقرنا) أي تفقدوا زراعاتكم نحن وجدنا ذرة في فضلات الأبقار، مما يدل على أنها تعدت على إحدى الزراعات. وقس على ذلك. 

ولكن هنا سؤال يطل برأسه ليقول، ما الذي حدث؟؟! 

هذا السؤال يولد عدة أسئلة جوهرية، لأن الذي حدث هو أن هذه العلاقة الرائعة اختلت، ومرت بهزات عنيفة. 

ولكن دعونا نطرح الأسئلة تباعاً، متى ساءت هذه العلاقة واختل هذا التنظيم الجيد؟

وما الأسباب التي أدت إلى هذا الاختلال؟

وما الجهة المسؤولة عن ذلك؟

أو من الشخص المسؤول عن ذلك؟

وما إخفاقات كل طرف ومسؤولياته؟

الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها بكل صراحة وشفافية، يمكنها أن تؤسس لعلاقة جديدة بين المزارعين والرعاة  بعيداً عن السياسة والسياسيين، كأكبر إشكال وتحدٍّ يواجه المنطقة. والسلام.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *