بعد أن تسكت البنادق.. هل يتحدث العلم؟ التحفيز والتعاون الأكاديمي بديلان للحسد والانغلاق

2
pic01
Picture of د. إيهاب عبد الرحيم الضوي أحمد

د. إيهاب عبد الرحيم الضوي أحمد

اختصاصي تحليل بيانات وخبير إحصاء – عضو هيئة تدريس بالجامعة العربية المفتوحة بدولة الكويت.

مقدمة: العلم ركيزة أساسية في إعادة إعمار ما بعد الحرب

حين تنتهي الحروب ويطوى لهيب البنادق، لا يبقى أمام الشعوب سوى خيار وحيد لبناء المستقبل: العلم والمعرفة. وفي السودان، الذي أنهكته النزاعات وشتّتت طاقاته، تبرز الجامعات ومراكز البحث العلمي باعتبارها صروحاً محورية لإعادة الإعمار وقيادة التنمية الوطنية. فالطريق إلى الاستقرار والنهضة لا يمر فقط عبر إصلاحات اقتصادية أو سياسية، بل يبدأ من عقول الباحثين، وقاعات الجامعات، ومراكز التفكير العلمي.

إن المرحلة القادمة تفرض علينا جميعاً – كأساتذة جامعات وباحثين – أن نتجاوز العمل الفردي المغلق، وأن نرتقي بثقافتنا الأكاديمية من التنافس السلبي والحسد إلى روح التعاون والشراكة المعرفية. فالمعرفة لا تتضاعف بالحجب، بل بالتمرير، ولا تزدهر بالحسد، بل بالتحفيز والدعم المتبادل.

وتاريخياً، لم تنهض أي أمة من ركام الحروب إلا عبر استثمارها في التعليم والبحث العلمي. فالبحث العلمي ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية لإعادة بناء القطاعات الحيوية: من الزراعة والصحة، إلى التعليم والإدارة، إلى التعايش المجتمعي والسلم الأهلي.

ومع توافر العقول الناضجة والكفاءات السودانية المتميزة، في الداخل والخارج، فإن المهمة اليوم ليست مستحيلة، بل ممكنة، بشرط أن نخلق بيئة بحثية محفزة، تقوم على التعاون لا التنافر، وعلى التقدير لا التبخيس، وعلى العطاء لا الحسد.

ومن هنا، تأتي أهمية هذه المقالة كنداء علمي وأخلاقي للأساتذة والباحثين في سودان ما بعد الحرب: هل نتعاون؟ هل نشارك المعرفة؟ هل نبني معاً؟

التحفيز الأكاديمي: الوقود الذي يحرك عقل الأستاذ الجامعي

في سياق ما بعد الحرب، ييصبح من الضروري إعادة تعريف العلاقة بين الأستاذ الجامعي ومؤسسته، لا على أساس الواجبات وحدها، بل من خلال خلق بيئة محفزة تكرّم الجهد، وتعترف بالإبداع، وتوفر مناخاً يدفع نحو العطاء لا الانكماش. فالتحفيز الأكاديمي هو الوقود الحقيقي الذي يحرك عقل الأستاذ الجامعي ويدفعه نحو التميز، ليس فقط في قاعة المحاضرات، وإنما في المختبر، والندوة، والمجتمع ككل.

يمتد التحفيز الأكاديمي إلى ثلاثة أبعاد متكاملة: مادي، ومعنوي، ومؤسسي. فعلى المستوى المادي، يظل الاستقرار المالي حجر الزاوية في تمكين الأساتذة من التركيز على البحث العلمي والابتكار. الأجر العادل، والحوافز المرتبطة بالإنتاج البحثي، ومكافآت النشر والإشراف، كلها تمثل عوامل تشجيعية تعترف بالجهد المبذول وتمنح الباحث شعوراً بقيمة ما يُنجزه. ومن دونها، يصبح العمل الأكاديمي مرهقاً نفسياً ومادياً، وتتحول المهنة إلى عبء بدل أن تكون رسالة.

أما على المستوى المعنوي، فإن الأستاذ الجامعي بحاجة إلى أن يشعر بأن إنجازه مقدر ومحترم داخل مجتمعه الأكاديمي. ويشمل هذا التقدير البعد الرمزي والوجداني: كلمات شكر من عميد أو رئيس جامعة، تكريم رسمي في فعالية علمية، مشاركة إنجازاته على منصات التواصل الجامعي، أو حتى دعمه في تمثيل جامعته في المؤتمرات الإقليمية والدولية. في بيئة تعاني من آثار الحرب والشتات، يكون للتقدير المعنوي طاقة علاجية تدفع نحو الاستمرار والأمل.

التحفيز المؤسسي لا يقل أهمية عن سابقيه، بل قد يكون الأكثر تأثيراً على المدى الطويل. فحين تضع الجامعة سياسات واضحة تحفز البحث العلمي، وتوفر الوقت الكافي للتفرغ، وتقلص الأعباء الإدارية غير الضرورية، فإنها لا تصنع فقط بيئة منتجة، بل ترسل رسالة ضمنية: «نثق بك، وندعمك». دعم المكتبات الرقمية، وتوفير قواعد البيانات العلمية، والمساعدة في كتابة المشاريع التنافسية، وبناء مراكز بحث متعددة التخصصات، كلها صور للتحفيز المؤسسي المطلوب في سودان ما بعد الحرب.

تظهر التجارب الدولية أن الاستثمار في تحفيز الكوادر الأكاديمية هو ركيزة لبناء المجتمعات. فدولة مثل رواندا، التي خرجت من واحدة من أكثر الحروب دموية في إفريقيا، استطاعت خلال عقدين أن تعيد بناء منظومتها الجامعية من خلال توفير الدعم الحكومي للأبحاث، وتمويل المشاريع التشاركية، وتكريم الكفاءات العائدة من المهجر. وكولومبيا كذلك، التي عانت من صراع داخلي طويل، استعادت عافيتها من خلال دعم البحث العلمي كمحرك أساسي لإعادة الإعمار وبناء الثقة الاجتماعية.

في السودان، حيث تمتلك الجامعات نخبة من أفضل العقول على مستوى القارة، فإن غياب التحفيز يشكل تهديداً حقيقياً لهجرة العقول وفقدان رأس المال الفكري. أما إن أحسنت الدولة والجامعات التحفيز بمختلف أنواعه، فإنها لا تُسهم فقط في إبقاء الكفاءات داخل الوطن، بل في تحويلها إلى طاقة دافعة لنهضة السودان العلمية والمجتمعية.

التعاون بين الأساتذة: رأس مال فكري لبناء الوطن

وحيث إننا حالياً في هذا الوقت المعاصر نتجه أكثر فأكثر نحو التخصصات المتداخلة، لم يعد العمل الأكاديمي الانفرادي كافياً لمواجهة تعقيدات الواقع السوداني ما بعد الحرب. فالتحديات التي نواجهها، من إعادة الإعمار إلى الأمن الغذائي والصحة العامة، لا تُحلّ من خلال منظور أحادي أو تخصص مغلق، بل تحتاج إلى تحالفات علمية بين الأساتذة والباحثين، تمتد داخل الجامعة الواحدة، وتعبر حدود المؤسسات والمناطق.

المشاريع البحثية التشاركية تمثل حجر الزاوية لهذا التوجه، حيث يلتقي أصحاب الخبرات المتنوعة لتقديم حلول أكثر شمولاً وفاعلية. فعندما يتعاون أستاذ في العلوم الاجتماعية مع زميله في الهندسة أو الصحة العامة، تكون النتيجة بحثاً أكثر ارتباطاً بالواقع، وأكثر قدرة على إحداث التغيير المنشود. هذا النوع من التعاون لا يثري البحث فحسب، بل يخلق جسور ثقة وتفاهم بين الأقسام والكليات المختلفة، ويكسر الحواجز النفسية بين التخصصات.

التعاون الأكاديمي كذلك يسهم في نقل المهارات والمعرفة، حيث يتعلم كل طرف من الآخر، ويبنى جيل جديد من الباحثين الشباب في بيئة تحتفي بالتكامل لا بالتنافس. ورش العمل المشتركة، والملتقيات البحثية، ومنصات النقاش العلمي الإلكتروني، هي أدوات عملية لتعزيز هذا التعاون. ويُفترض أن تتبناها الجامعات السودانية بوصفها جزءاً من ثقافتها المؤسسية الجديدة.

في مرحلة إعادة بناء الوطن، لم يعد هناك مجال للعزلة العلمية أو الانكفاء داخل التخصص. فالعلم لا يُنتج في غرف مغلقة، بل عبر الحوار، والتكامل، والتعاون المفتوح. وقد آن الأوان أن ننظر إلى زميلنا في التخصص المجاور لا كمنافس، بل كشريك في صناعة مستقبل السودان.

آفة الحسد وحجب المعرفة: أخطر عوائق التعافي الأكاديمي

إذا كان التحفيز والتعاون هما رافعتا البحث العلمي، فإن الحسد الأكاديمي وحجب المعرفة هما معول الهدم الصامت الذي يقوض العمل العلمي من الداخل. وفي المجتمعات الخارجة من الأزمات، تظهر هذه الآفات بشكل أكثر حدة، نتيجة للضغوط النفسية، وغياب العدالة المؤسسية، وضعف ثقافة التقدير المشترك.

الحسد الأكاديمي يتجلى في أشكاله الأكثر خطورة حين يُقابل تميز الأستاذ أو الباحث بالتحقير والتقليل، لا بالتقدير والدعم. وحين تُحجب المعرفة لا لسبب علمي، بل بدافع المنافسة المريضة أو الخوف من التفوق، يصاب جسد الجامعة بالشلل. من مظاهر هذا الحسد: رفض تبادل الأوراق البحثية أو المراجع، تعطيل مبادرات بحثية مشتركة، عدم التوصية بالزملاء في الفرص الدولية أو لجان التحكيم، بل أحياناً التشكيك المتعمد في مصداقية الزملاء أو تقويض مساعيهم للترقي الأكاديمي.

والأخطر من ذلك أن هذه السلوكيات لا تؤذي صاحب الإنجاز فحسب، بل تدمر الروح العلمية في الجامعة، وتفسد مناخ الثقة بين الزملاء، وتنقل رسالة سلبية للطلبة مفادها أن الحسد مسموح والتميز معاقب عليه. ومع مرور الوقت، تفقد الجامعة بريقها كمؤسسة معرفية، وتتحول إلى فضاء يغيب فيه العمل الجماعي، وتنتشر فيه عزلة الباحثين واغتراب المتميزين.

لذلك، لا بد من مواجهة هذه الآفة بوعي أخلاقي ومؤسسي. فالعلم لا يزهر في مناخ الحسد، ولا تتقدم الجامعات التي يُحارب فيها التميز. المطلوب هو بناء ثقافة جامعية قائمة على الكرم العلمي، والإيثار الفكري، ومشاركة الإنجازات لا احتكارها. فالجامعة التي تحتضن التميز الجماعي، هي الجامعة التي تستحق أن تقود السودان نحو مستقبل أفضل.

من الحسد إلى الحصاد: كيف نؤسس لثقافة جديدة؟

بعد سنوات من الأزمات والانقسامات، لا يمكن للجامعة السودانية أن تنهض دون تحول عميق في ثقافتها المؤسسية. فبدلاً عن ثقافة الحسد والانغلاق، نحتاج إلى ثقافة تقدير وتعاون وتضامن معرفي. هذه الثقافة الجديدة لا تفرض بقرارات، بل تبنى بتراكم السلوكيات الإيجابية، وترسخ من خلال أنظمة واضحة تدعم المشاركة وتنصف المتميزين.

الخطوة الأولى تبدأ من الاعتراف الصريح بأن التعاون بين الأساتذة ليس ترفاً، بل ضرورة أكاديمية ووطنية. ويجب أن يشعر كل أستاذ أن دعمه لزميله لا يقلل من مكانته، بل يعزز موقعه كجزء من مجتمع علمي صحي. هذا يتطلب إعادة تشكيل نظرة الجامعات للتفوق، بحيث لا يكون النجاح فردياً معزولاً، بل جزءاً من بيئة جماعية متكاملة.

كما ينبغي أن تقوم الجامعات السودانية على سياسات تشجع تبادل المعرفة ومشاركة الموارد الأكاديمية، سواء كانت مراجع علمية، أو أدوات تحليل، أو شبكات علاقات بحثية. هذه السياسات يجب أن تكون مكتوبة، ومعلنة، ومُطبّقة بآليات حوكمة عادلة، لا تترك المجال للمزاجية أو المحاباة.

ومن المهم أيضاً مكافأة السلوكيات التعاونية ضمن أنظمة الترقية والتقييم، من خلال تخصيص نقاط واضحة في ملف الأستاذ لمن يشارك في أبحاث جماعية، أو يدعم زملاءه في الحصول على فرص بحث أو إشراف، أو يبادر بتنظيم أنشطة معرفية جماعية. حين يشعر الأستاذ أن التعاون يُكافَأ رسمياً، سيتحول من خيار شخصي إلى ممارسة مؤسسية راسخة.

وبهذه الخطوات، يمكن أن ننتقل من الحسد الأكاديمي إلى الحصاد المعرفي، ومن ثقافة الانعزال إلى روح الفريق. وهي رحلة تتطلب صبراً وتدرجاً، لكنها كفيلة بتحويل الجامعات السودانية إلى فضاءات منتجة وملهمة.

نحو خارطة طريق لباحث سوداني جديد

في ظل الواقع المتغيّر الذي يواجه السودان، فإن الحاجة ماسة اليوم إلى صياغة نموذج جديد للباحث الجامعي السوداني، يتجاوز الصورة التقليدية التي اختزلت دوره في التعليم والتلقين، ليصبح فاعلاً تنموياً، مساهماً في السياسات العامة، ومبتكراً في الحلول.

تحقيق ذلك يتطلب أولاً تأسيس مراكز بحث تعاونية داخل الجامعات، لا تكتفي باستضافة الباحثين، بل تشجع على العمل المشترك بين الأقسام والكليات، وتهيء بنية تحتية مشتركة من مختبرات وأدوات تحليل وقواعد بيانات. هذه المراكز ينبغي أن تُدار بمنطق الإنتاج لا التسيير، وأن تُفتح أمام الباحثين من مختلف الجامعات السودانية، لتعزيز ثقافة التكامل الوطني.

كما يجب أن تتحرك الدولة والمؤسسات الوطنية نحو تمويل البحث الجماعي والمشاريع متعددة التخصصات، سواء عبر مخصصات مالية مستقلة أو شراكات مع المنظمات الدولية والجهات المانحة. لأن الدعم الفردي، رغم أهميته، لن يصنع كتلة بحثية فاعلة قادرة على التأثير في السياسات أو الاستجابة لتحديات المجتمع.

وأخيراً، لا بد من إعادة تصميم نظام الابتعاث الأكاديمي ليخدم أهدافاً تشاركية، بحيث يُبتعث الأستاذ ليس فقط لتحصيل شهادة، بل لاكتساب شبكة علاقات، ونقل تجارب مؤسسية، وبناء مشاريع علمية عابرة للحدود. هذا يتطلب أيضاً ربط العائد من الابتعاث بخطط واضحة للتطوير المؤسسي داخل الجامعات السودانية، وليس الاكتفاء بالعودة الصورية إلى الوظيفة.

خارطة الطريق هذه لا تكتمل بين يوم وليلة، لكنها تبدأ من وعي حقيقي بدور الباحث في إعادة بناء السودان، ومن إرادة سياسية ومؤسسية تعتبر البحث العلمي جزءاً من الحل، لا هامشاً للنقاش.

خاتمة: الأكاديميون صُنّاع سلام ومعرفة

في زمن ما بعد الحرب، حين تتردد المجتمعات بين الألم والرجاء، يبرز الأستاذ الجامعي والباحث بوصفه أحد أهم الفاعلين في إعادة التوازن، واستعادة الثقة، وفتح الأفق نحو المستقبل. فالأكاديميون لا يصنعون السلام عبر الخطابات السياسية، بل عبر إنتاج المعرفة، وترسيخ الحوار، وتقديم الحلول الواقعية المبنية على البحث والتحليل. إنهم صُنّاع السلام الهادئ، والنهضة الصامتة التي تنمو في المعامل والمكتبات وقاعات النقاش.

والجامعة السودانية – رغم ما مرت به من أزمات بنيوية وفقدان للكوادر – لا تزال تملك رأس مال بشري عظيم، من أساتذة وباحثين وطلاب، قادر على لعب دور محوري في صياغة تعافي السودان، ليس فقط تعافياً مادياً، بل تعافياً فكرياً وأخلاقياً وتنموياً.

لكن هذا الدور لن يمارس في بيئة يغيب فيها التحفيز، أو تسودها مشاعر الحسد وحجب المعرفة. بل لا بد من تأسيس مناخ أكاديمي جديد، قوامه التقدير، والتعاون، والمشاركة، والانفتاح على الآخر. مناخ يعتبر النجاح الفردي جزءاً من نجاح جماعي، ويحتفي بالمتميز لا يطارده، ويشجع الباحثين لا يحبطهم.

إن تعزيز البحث العلمي في سودان ما بعد الحرب ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وطنية لبناء اقتصاد منتج، ومجتمع عادل، ودولة قادرة. وعلى الجامعات أن تكون في قلب هذا التحول، ليس كمؤسسات تعليمية فقط، بل كقادة للتغيير الاجتماعي والفكري.

وها نحن نعود إلى السؤال الأول: بعد أن تسكت البنادق… هل يتحدث العلم؟، نعم، يتحدث العلم… فقط إن صمتت الأحقاد، واشتغلت العقول، وتعاونت القلوب.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *