انتصار الإرادة العسكرية والإستراتيجية على الفوضى والدمار

173
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• منذ أن بدأت الحرب المفروضة على الجيش السوداني، والتي اجتاحت السودان منذ تمرد مليشيا الدعم السريع وبدأت صراعها المسلح في أبريل 2023، برزت معركة الخرطوم كأهم محطة في هذا الصراع الدامي، حيث تحولت العاصمة السودانية إلى ساحة مواجهة بين قيمتين متناقضتين: من جهة، الجيش السوداني بوصفه المؤسسة الوطنية التي تحمل مشروع دولة القانون والمؤسسات، ومن جهة أخرى، مليشيات الدعم السريع التي تمثل نموذجاً للفوضى والعنف العشوائي. لقد أثبت الجيش السوداني خلال معركة تحرير الخرطوم أنه قوة محترفة تتحرك وفق تكتيكات عسكرية مدروسة، في مواجهة خصم لا يعرف سوى سياسة الأرض المحروقة والدمار الشامل .
تبنى الجيش السوداني تحت قيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان العمل بمبدأ «الحفر بالإبرة» كفلسفة عسكرية شاملة، وهي المقولة التي تحولت إلى منهج عملي في معركة تحرير الخرطوم. لم يكن هذا المنهج ذراً للرماد في العيون، بل تحول إلى خطة عمل متكاملة تعتمد على التدرج والصبر ودراسة كل خطوة قبل الإقدام عليها. لقد فهم قادة الجيش أن معركة الخرطوم ليست سباقاً للوصول إلى النصر بأسرع وقت ممكن، بل هي عملية معقدة تحتاج إلى دقة متناهية كتلك التي يحتاجها الحفر بالإبرة .
اتبع الجيش السوداني في تحرير الخرطوم استراتيجية متعددة المراحل:

1- مرحلة العزل والتطويق: حيث عمل الجيش على عزل القوات المعادية في الخرطوم عن قواتها في الولايات الأخرى، خاصة بعد نجاحه في استعادة السيطرة على ولاية الجزيرة ومدينة ود مدني في يناير 2025، مما قطع خطوط الإمداد عن قوات الدعم السريع في العاصمة .

2- مرحلة استنزاف القوة المعادية: من خلال عمليات القصف الجوي الدقيق والهجمات المحدودة التي استهدفت نقاط القوة لدى الخصم، مع تجنب المواجهات المباشرة التي قد تؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين .

3- مرحلة التحرير التدريجي: حيث بدأ الجيش في السيطرة على مناطق الخرطوم قطعة قطعة، بدءاً من الأطراف وصولاً إلى المركز، مع تركيز خاص على المواقع الاستراتيجية مثل القيادة العامة للقوات المسلحة والتي تم فك الحصار عنها في يناير 2025 .

1- مرحلة التطهير النهائي: والتي شهدت تحرير القصر الجمهوري في مارس 2025، وهو ما اعتبر لحظة حاسمة في مسار الحرب، ليس فقط لأهميته العسكرية ولكن لرمزيته السياسية كقلب الدولة السودانية .

2- أظهر الجيش السوداني خلال معركة تحرير الخرطوم تفوقاً تكتيكياً واضحاً على قوات الدعم السريع، حيث اعتمد على:

• التنسيق بين الأسلحة المختلفة: من خلال التكامل بين القوات البرية والجوية، مما سمح بعمليات متزامنة على عدة جبهات داخل الخرطوم .

• استخدام الذكاء العسكري: من خلال تحديد نقاط الضعف في صفوف الخصم واختيار توقيت الهجمات بعناية فائقة .

• المرونة في تغيير الخطط: حيث أظهر الجيش قدرة عالية على التكيف مع المتغيرات الميدانية، كما حدث عندما اضطر لتغيير خططه بعد اكتشاف مواقع جديدة لقوات الدعم السريع .

• في المقابل، أظهرت قوات الدعم السريع افتقاراً واضحاً للتنظيم العسكري المحترف، حيث اعتمدت على:

• تكتيكات الأرض المحروقة: من خلال تدمير البنية التحتية للمناطق التي كانت تنسحب منها، كما حدث في مناطق واسعة من دارفور .

• العنف العشوائي: الذي استهدف المدنيين بشكل ممنهج، مما أدى إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك أعمال العنف الجنسي والقتل على الهوية.

• الاعتماد على الأسلحة المتطورة دون استراتيجية واضحة: حيث حاولت تعويض نقص الخبرة العسكرية بكميات كبيرة من الأسلحة المتقدمة التي حصلت عليها من جهات خارجية، لكنها فشلت في استخدامها بشكل فعال .

• عانى سكان الخرطوم تحت سيطرة قوات الدعم السريع من ويلات لا توصف، حيث تحولت حياتهم إلى جحيم يومي:

• القتل والترويع: حيث انتشرت عمليات القتل العشوائي والاختطاف، خاصة في المناطق التي تسكنها جماعات عرقية معينة.

• النهب المنظم: حيث استولت قوات الدعم السريع على الممتلكات العامة والخاصة، وحولت المؤسسات الحكومية إلى ثكنات عسكرية .

• انقطاع الخدمات الأساسية: بسبب تدمير البنية التحتية وتعطيل مؤسسات الدولة، مما أدى إلى أزمة إنسانية حادة .

• في المقابل، وثقت العديد من التقارير مشاهد الفرح الجماعي التي عمت أحياء الخرطوم مع تقدم قوات الجيش:

• الاحتفالات الشعبية: حيث خرج السكان في مناطق متعددة لاستقبال قوات الجيش، ورفعوا الأعلام السودانية تعبيراً عن فرحتهم بالتحرر من سيطرة الدعم السريع.

• استعادة الأمل: حيث رأى الكثير من السودانيين في عودة الجيش إلى مناطقهم بداية لنهاية الكابوس الذي عاشوه لأشهر طويلة .

• المساندة الشعبية: التي تجلت في تقديم المساعدات للجنود، وتزويدهم بالمعلومات عن تحركات قوات الدعم السريع، مما ساهم في تسريع عمليات التحرير .

• قدمت معركة تحرير الخرطوم دروساً مهمة في فن القيادة العسكرية:

• أهمية الصبر الاستراتيجي: حيث أثبتت تجربة الجيش السوداني أن النصر لا يأتي بالاندفاع العشوائي، بل بالتخطيط المدروس والتنفيذ الدقيق.

• فعالية الحرب النفسية: من خلال تحطيم معنويات العدو قبل مواجهته عسكرياً، كما فعل الجيش عندما أشاع حالة من التردد والشك في صفوف قوات الدعم السريع.

• قيمة الوحدة الوطنية: حيث تعاون الجيش مع قوى شعبية مختلفة، بما في ذلك بعض الحركات المسلحة السابقة، والمستنفرين، مما وسع من قاعدته الاجتماعية والعسكرية.

• لم تكن تداعيات معركة الخرطوم محصورة في السودان، بل امتدت إلى المحيط الإقليمي والدولي:

• تغيير التحالفات الإقليمية: حيث اضطرت بعض الدول إلى تعديل مواقفها مع تغير موازين القوى في ساحة المعركة.

• أزمة الميليشيات العابرة للحدود: التي كشفت عن خطورة ظاهرة المقاتلين الأجانب الذين انضموا إلى صفوف الدعم السريع من دول مجاورة.

• تدخلات القوى الكبرى: حيث حاولت بعض الدول استخدام الأزمة السودانية لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، خاصة فيما يتعلق بالوجود العسكري في البحر الأحمر.

• مع اقتراب المعركة من نهايتها، يمكن القول إن تحرير الخرطوم يمثل أكثر من مجرد انتصار عسكري؛ إنه انتصار لمشروع الدولة على الفوضى، وللشرعية على الانقلاب، وللمؤسسية على العشوائية. لقد أثبت الجيش السوداني للعالم أنه قادر قلب الموازين في أي لحظة ليستلم زمام المبادرة.

• شهدت معركة الخرطوم لحظة تحول حاسمة عندما انتقل الجيش السوداني من مرحلة الدفاع عن المواقع إلى مرحلة الهجوم المنظم. هذا التحول لم يكن مفاجئاً بل جاء نتيجة:

• تراكم الخبرات القتالية: حيث استفاد الجيش من كل معركة صغيرة لصقل مهاراته التكتيكية.

• بناء القوة النارية: من خلال تعزيز القدرات المدفعية والجوية بشكل نوعي.

• التنسيق مع القوات النظامية: في الولايات الأخرى التي حققت انتصارات متتالية على قوات الدعم السريع.

• أثبت الجيش السوداني براعة فائقة في قتال الشوارع الذي يعتبر من أصعب أنواع القتال:

1- تطهير الأحياء السكنية: بأساليب تحافظ على حياة المدنيين

2- التمويه والتضليل: باستخدام وحدات خاصة للتمويه وخداع العدو.

3- الضربات الجراحية: التي استهدفت قيادات المليشيات بدقة متناهية.

4- تميز أداء الجيش السوداني بالاهتمام غير المسبوق بحماية المدنيين، حيث:

• استدراج المليشيا إلى مناطق غير مأهولة بالسكان قبل المعارك.

• أنشأ نقاط إغاثة لتقديم المساعدات الطبية والغذائية.

• تعاون مع المنظمات الإنسانية لتسهيل وصول المساعدات.

• مع كل منطقة يتم تحريرها، كان الجيش يباشر فوراً:

• إعادة الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه.

• تأمين المؤسسات الحيوية مثل المستشفيات والمدارس.

• إعادة فتح الطرق الرئيسية لتحريك عجلة الاقتصاد.

• قدمت معركة الخرطوم دروساً استراتيجية هامة:

1- فشل نموذج المليشيات: في إدارة الدولة أو حتى الحفاظ على مكاسب عسكرية.

2- قوة المؤسسة العسكرية الوطنية: عندما تحظى بدعم شعبي حقيقي.

3- أهمية الصبر الاستراتيجي: في تحقيق الأهداف الكبرى.

4- يطرح تحرير الخرطوم أسئلة مصيرية عن المرحلة القادمة:

• إعادة بناء الدولة: من الأنقاض التي خلفتها المليشيا.

• المصالحة الوطنية: مع كل الأطراف باستثناء من ارتكبوا جرائم حرب.

• الإصلاح العسكري: لتعزيز المهنية والحياد السياسي.

• بعد رحلة عسكرية استثنائية، تثبت معركة تحرير الخرطوم عدة حقائق كبرى هي أن الشرعية تنتصر دائماً في النهاية على القوة العارية. وأن الشعب السوداني كان الخاسر الأكبر والمنتصر الحقيقي. كما أن الجيش السوداني كتب صفحة جديدة في تاريخه العريق.

• لقد تحولت الخرطوم من مدينة أشباح إلى عاصمة تتنفس الأمل مرة أخرى. هذا التحول لم يكن ممكناً لولا إرادة القيادة العسكرية الواضحة وشجاعة الجنود الذين قدموا التضحيات وأخيراً صبر الشعب السوداني الذي تحمل الويلات.

• اليوم، بينما تشرق شمس الحرية على أسوار الخرطوم المحررة، يكتب السودانيون فصلاً جديداً من تاريخهم، يؤكدون فيه أن إرادة الحياة أقوى من كل محاولات الدمار، وأن المستقبل سيكون دائماً لأبناء النيل الذين تعلموا من دروس الماضي وعرفوا طريق المجد.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *