انتحار الشعراء.. مشاهد خانقة تتجول بين فصول شفافة (2-3) 

158
shaibon
Picture of تحقيق: نبوية سرالختم

تحقيق: نبوية سرالختم

• حين يعجز العالم عن إحتضان ارواح شفافة مثل أرواح الشعراء وتخفيف آلامهم الناتجة عن شعورهم بقبح الواقع وظلمه تتكشف نصوصهم عن تجارب مأساوية تحمل إشارات حارقة نحو السبيل إلى الخلاص

فالكتابة في لحظة ما لا تصلح لتكون مسكن لآلام الروح والعذابات والجراح أحياناً يكون الإنسحاب من هذا الواقع المظلم ليس ضعفاً بل إختياراً شجاعا من هنا يكون (الانتحارً) ليس نزوة عابرة او لحظة يأس طارئة بل حصيلة وعي بواقع مرير يشوبه انين طويل ومشاهد خانقة تتجول بين فصول دواوينهم الشفافة لتجعل من الانتحار خلاص مشروع يحمل شهادة دامغة على مأساة الانسان في عالم يطرد أنبل قاطنيه.

تناولنا في الحلقة السابقة تجربة الراحلين محمد عبد الرحمن شيبون وعبد الرحيم أبوذكري وتوجهاتهم الشعرية في محاولة لفهم الدوافع لدى كل منهما وارتباطاتها بطرق وتوجهات التفكير والتعاطي مع الظروف الاجتماعية والسياسية وفي هذه الحلقة سنحاول ان نتوسع في البحث ونأخذ بالتحليل نماذج اخرى عانت من نفس الظروف وعاصرت هذا الجيل الأدبي والشعري وربما سبقته في تذوق اصناف اخرى من المعاناة والاغتراب ولكنها تعاطت مع هذه المعاناة بشكل مختلف وقدمت تجربتها الشعرية وهي تتقلب في هذه المواجع حتى آخر نفس ومن بين هذه التجارب تجربة الراحل عبد الله شابو 

ينتمي الراحل عبد الله شابو إلى حركة الشعر الحديث ويعد من رموزها في السودان حيث لقب بريحانة الشعر السوداني ويعكس توجهه الادبي التأثر الشديد بالحركات الوجودية والفكر الفلسفي عكست تجربته مثل أبوذكرى وشيبون التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى بعد الاستقلال وحالات القمع وانعدام القيمة والتأثير في الواقع خصوصاً في السبعينات غير ان شاعريته كانت تميل نحو البحث الداخلي عن المعنى والخلاص الروحي بينما أبو ذكرى كان اكثر تشاؤماً وركز على الموت والانتحار كحل في حين كان شيبون أكثر فلسفسة في تعامله مع الموت معتبراً إياه تحرراً روحياً كما اشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة وبالغوص في تجربة الراحل شابو نجد انه استخدم رموز مختلفة في تجربته الشعرية ففي ديوان حاطب ليل « شيخي يغرز في اللحم البضّ أحزان البارحة المُرّة ويصفق للساقي أن زدنا لا تبقي قطرة للصحو التافه فينا لا تبقي قطرة» هنا يستخدم شابو رموز متعددة مثل الشيخ والخمر والسيدة وهي في الاصل تعبير عن حالات نفسية متعددة مثل الصراع بين الرغبة والواجب والانغماس في اللذة كوسيلة للهروب من  الواقع وفي ديوانه «أغنية لإنسان القرن الحادي والعشرين « يقول « مِن ثُقبِ الشُبّاكِ تَداعَى صَوْتٌ شَهقةُ موسيقى والصمتُ يُعِّرشُ في أرجاءِ البيت ما أقسى أن تعرفَ لكنْ لا تَقوى أن تفعلْ أن تُدركَ أنّ الوقتَ يَمرُّ ولا توقِفُهْ فارغةٌ فارغةٌ كأسى والليلُ طويلْ» هذا النص يشير إلى عدم قدرة الشاعر على مجاراة ما يمور في داخله مع صخب العالم الخارجي فيصور صخب الحياة في الخارج في مقابل الصمت الداخلي وهو شعور يعكس حالة من العزلة والانفصال وبتحليل اعمق نجد ان ذلك يعكس حالة من  الصراع الداخلي والعجز وتمثل هذه التجربة تعبير عن معاناة الانسان المعاصر الذي يدرك الحقائق ولا يملك القدرة على احداث التغيير اللازم وهو ما يتجلى في قوله: «ما أقسى أن تعرفَ لكنْ لا تَقوى أن تفعلْ». هذا الصراع بين المعرفة والعجز يسلط الضوء على الإحساس باللاجدوى والفراغ الذي يعيشه الإنسان يشير الشاعر إلى مرور الوقت دون القدرة على إيقافه، مما يزيد من الشعور بالفراغ والوحدة، كما في قوله: «فارغةٌ فارغةٌ كأسى والليلُ طويلْ». الليل الطويل هنا يرمز إلى امتداد المعاناة والانتظار دون أمل في التغيير ويعرض الشاعر تجربة اخرى في ديوانه «حاطب ليل» يقول « في رفقة الأحباب قد شربت حتى الموت حتى انتهى تفاعل الأشياء وانتهيت وعندما أفقت باهتًا كحائط قديم أحسست أن الزيف كله أنا « هذه التجربة تتشابه مع حالة ابوذكرى من حيث الهروب الحسي من خيبة الواقع والألم إلى الموت الرمزي فبعد حالة الانغماس مع الاحباب في الملذات والاستيقاظ من هذه السكرة يعود مرة اخرى للشعور بالفراغ والخيبة حيث يشبه نفسه بالحائط القديم مما يدل على التآكل الداخلي وفقدان الحيوية ويوصف الشاعر نفسه بالزيف كإنعكاس لحقيقة الواقع الذي عاشه لكن هل قدم شابو الانتحار كحل مثل شيبون وابوذكرى ؟ الاجابة ان شابو كان يمثل جيل ولد في كنف الاستعمار وكان يبحث عن هوية وطنية وفكرية من خلال صراع داخلي دائم مع الذات والوجود لكنه لم يقدم على الانتحار كحل بل كان يقدم الاحتراق الداخلي والمضي قدماً نحو الخلاص الروحي كطريقة مناسبة أما أبو ذكرى فقد قدّم صورة مغايرة للموت، حيث كان يرى في الموت الحرية الوحيدة من عبث الحياة وشيبون كان أكثر اهتمامًا بالفلسفة الوجودية، وكان الموت في شعره تحررًا فلسفيًا لا نهاية حتمية. تباين هذه الرؤى بين الشعراء الثلاثة يكشف لنا مدى تنوع الأدوات الشعرية والطريقة التي استخدمها كل شاعر في التعبير عن ألم الوجود والتعامل معه فشابو يحاور ذاته ويبحث عن الخلاص لكن بمعنى اعمق ويكافح في سبيل ذلك متحملاً الألم دون إستسلام للموت او الانتحار غير ان ابو ذكرى كان الأكثر صراحة في التعبير عن فكرة الانهزام الوجودي والهروب من الواقع المأساوي والالم عبر الموت والنهاية الجسدية 

وهنا يختلف أبو ذكرى مع شيبون والذي يظهر الموت كجزء من رحلة فلسفية للتخلص من القيود الوجود ومع شابو الذي يقترب من الموت الرمزي أكثر من كونه نزعة انتحارية وهو صراع دائم مع الحياة أكثر من كونه استسلامًا لها

إذن، نجد أن الشاعر عبد الله شابو يُقدّم التصالح الداخلي مع الحياة والوجود، حيث يظل يبحث عن الخلاص الروحي من خلال فهم الألم الوجودي وليس الهروب منه. في حين أن أبو ذكرى يتعامل مع المعاناة كعبء ثقيل لا مفر منه، فيرى الموت حلًا نهائيًا للهروب من هذا العبث الوجودي. أما شيبون، فكان أكثر فلسفية في تعامله مع الموت، حيث اعتبره مرحلة من التحرر والتجدد الروحي

وبما أن التعامل مع الألم الروحي والجسدي الناتج عن حالة الإصطدام بين رغبات الشاعر وطموحاته والواقع المرير كانت قد اخذت اشكال مختلفة من خلال تجارب الشعراء الثلاث حيث كان تفسير الموت كخلاص جسدي وروحي عند ابو ذكري وموت فلسفي وتجدد روحي عن شيبون والموت الرمزي عند شابو إذ يمثل الموت عنده نهاية لتفاعل الاشياء فهو يقدم رحلة وتجربة مكافحة للتصالح بين الذات والوجود.

 

شارك التحقيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *