معتصم تاج السر

معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• في صباحات السودان حين تلامس أشعة الشمس الأولى ثياب العيد المُعطرة برائحة الطِيب والبخور يبدأ القلب بالنبض على نغمة مختلفة.

إنها نغمة مرحب صباح العيد.

إن الأضحى ليس فقط شعيرة دينية بل حالة وجدانية وحنين عميق محفور في تفاصيل البيوت وفي وجوة الأهل وصوت «التكبير» المتردد من الميادين والمساجد الى الأزقة والرواكيب.

عيد الأضحى في السودان يشبه لحظة حُبّ نادرة لحظة تتوقف فيها الحياة قليلاً كي نعود فيها إلى الطفولة إلى حضن الأم وركضنا في الطرقات وبيوت الجيران والساحات وإلى يد الجدّة وهو تُسلمنا قطعة من «اللحم المحمّر» ملفوفة في الخبز البلدي نأكلها ولا ندري أننا نأكل معها كل حُبّ الحياة.

في صباح العيد يلبس السوداني أجمل ما عنده ليس من الثياب فقط بل من المشاعر أيضاً. تُغسل الأحزان بماء الوضوء وتُكوى القلوب بأمل اللقاء.

ويصبح كل بابٍ مفتوحاً لاستقبال الأحباب الذين لم تفرّق بينهم المسافات بل جمعتهم المحبة الأبدية في لحظة أُضحيةٍ وقُربى.

كم من قصة حُبّ بدأت في صباحات العيد..؟ وكم من نظرة خجولة تبادلتها العيون ودُست بين «تعود الأيام» و»القابلة على عرفات»..!!

كم من وعد خُطّ في القلب وهو يسمع «ربنا يحقق الأماني» من ثغرها الوضاء..! وكم من قصة بدأت من حول صاج نضجة فيه الشية والمحبة وخالط الليمون المشاعر. وكم من دمعة نزلت من عين أمّ لأن ابنها الذي في الغربة لم يُطرق بابها هذا العيد فجاء صوته عبر مكالمةٍ بها نبرة شوقٍ والكثير من الحنين..! العيد في السودان ليس مناسبة عابرة بل إنه ذاكرة…!

ذاكرة مغموسة في الحنين والأمنيات كقطعة بسكويت في «الشاي لبن» بعد صلاة العيد ..! 

وفي ضحكة الأصدقاء وهم يذبحون الخروف لأول مرة وفي لهفة الصغار وهم يركضون خلف «العيدية» في ملابسهم الزاهية كقلوبهم حتى لو لم تكن جديدة.

وفي وطني الذي مزقته الحرب مؤخراً يصبح عيد الأضحى مرآة حزينة لكنه أيضاً يحمل بارقة أمل في غداً مشرق قريب بحول ربي.

أمل أن نعود وأن نُصلّي جماعةً في ميادينا الفسيحة ، أن نُعانق بعضنا في شوارعنا وأن نُجهّز الخروف معاً.

وأن نُبارك لأم فقيد لا أن نواسيها.

أن نستعيد أصوات العيد لا أن نستعيض عنها بصمت النزوح واللجوء والمنافي. وكم يوجع العيد حين نراه من خلف زجاج الغربة لا يحمل من العيد سوى اسمه ..!

لا لون الفرح يزوره ولا عبق الذكريات يلامسه ولا طعم اللقاء يبلّ شفتيه. 

هو مجرد يومٍ آخر في رزنامة الوحشة.

كم نشتاق لرائحة التراب ولتلك الأحاديث التي لا تُقال إلا تحت ظلال شجرة النيم الكبيرة في البيت الكبير.

وفي قلب هذا العيد تسكن تفاصيل صغيرة لا يعرف دفئها إلا من عاش في السودان، وعرف أن الحُبّ لا يكون فقط في الكلمات بل في نكهة الأشياء.

فنجد سيد المشروبات «الشَّربوت» ..!

ذاك المشروب الساحر الذي تُعدّه الأمهات بحنانٍ يشبه الدعاء.

مزيج من التمر والتوابل والذكريات يُقدَّم بيدٍ ترتجف من الشوق لا من التعب ويُشرب ببطء كأن كل رشفة منه قبلة على جبين الزمن الجميل.

وإلى جانبه تُقدَّم الطحنية أو الطحينة بالعسل صحنٌ صغير لكن يشبة حلاوة الزول السمح والزين.

ولا تكتمل طقوس العيد في السودان بدون ملك العيد الخروف السوداني الذي يُعتبر من أطايب اللحوم في العالم، بل من فرط جودته وطيب لحمه، كأنه تربى على أغانينا وأحلامنا.

وحين يُعدُّ اللحم على الطريقة السودانية، فإن «الشِيّة» تصبح أكثر من وجبة إنها نشيد يغنى على الفحم تعزفه البهارات والايادي الطيّبة والحنين الدفاق. 

مشهد الشية وهي تُقلب فوق الجمر والضحكات من حولها ورائحة العيد تتصاعد في السماء تلك لحظات لا تُنسى.

ثم يأتي طبق «المَرارة» سيدة اللحظات الأولى من فطور العيد بطعمها الجريء وروحها الشعبية، تُقدَّم وكأنها تُعلن بدء الاحتفال الحقيقي تُؤكل المرارة وتُغمض الأعين ويندي الجبين ليس فقط من النكهة بل من الدهشة كيف يمكن لطبق بسيط أن يحمل هذا الكم من الذكرى..! ومن الحُبّ..! والجمال..!!

عيد الأضحى في السودان هو مرآة الروح وطعم الوطن ودفء العائلة وبقايا حبٍّ قديم لم يمت بل ينتظر عيداً آخر أكثر سلاماً وأكثر اكتمالاً.

فيا عيد… عُد على وطني وهو أكثر أمناً وأكثر حُبُاً وأكثر بهاء.

عُد علينا ونحن نبتسم دون دموع نُذبح أضحيتنا لا أحلامنا ونتعانق لأننا متحابون لا لأننا خائفون.

كل عيدٍ وأنتم الحُبّ الذي لا يذبحه الزمن.

وكل عيد وسوداننا بخير

والأحباب تحت شجرة المحبة يعيدون ترتيب ما أفسدته الحرب والمسافات والمنافي.

كل عام وأنتم بألف خير 

محبتي والسلام

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *