الوظيفة العامة: تكليف لا تشريف ومسؤولية لا امتياز

63
د. حاتم محمود عبدالرازق

د. حاتم محمود عبدالرازق

لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني

• في مجتمعاتنا المعاصرة، لا تزال النظرة إلى الوظيفة العامة مشوشة في أذهان كثيرين، إذ تُختزل أحيانًا في كونها وجاهة اجتماعية أو وسيلة للنفوذ، في حين أن حقيقتها الجوهرية أنها تكليف لا تشريف، ومسؤولية لا امتياز، وخدمة للناس لا تسلط عليهم.

فالوظيفة العامة، في بنيان الدولة الحديثة، تُعدّ الأداة التنفيذية التي تُجسّد بها الدولة حضورها في حياة المواطنين، وتؤدي من خلالها واجبها في تلبية الحاجات، وحماية الحقوق، وتيسير شؤون العيش. ومن ثم، فإن الموظف العام ليس «سيدًا آمِرًا»، بل «خادمٌ أمين» لوطنه وأهله، ومسؤول أمام الله والناس عن أدائه وانضباطه.

الاختيار السليم أساس الدولة الرشيدة

إن معيار الاختيار في الوظيفة العامة يجب أن يُبنى على الكفاءة والنزاهة، لا على الواسطة والمحسوبية. فحين تتقدم اعتبارات القرابة أو النفوذ على معايير الجدارة، تُهدر الطاقات، وتُغيّب الكفاءات، ويبدأ جسد الدولة في الترهل، وتنتشر بؤر الفساد، وتضيق مسالك العدالة.

وقد رسم القرآن الكريم هذا المبدأ الخالد في قول الله تعالى:

(إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص: 26]،

فالقوة دلالة على الكفاءة، والأمانة دلالة على النزاهة، وهما معيارا النجاح في أي موقع مسؤولية.

الموظف العام في ميزان الدين

لم يغفل ديننا الحنيف عن عِظم مسؤولية الوظيفة العامة، بل جعل قضاء حوائج الناس من أرفع القربات وأجلّ العبادات. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:

«ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تزلّ الأقدام».

فخدمة الناس بعدل وتواضع، وإنجاز معاملاتهم دون تمييز أو تسويف، ليست مجرّد واجب وظيفي، بل باب من أبواب الخير والنجاة في الدنيا والآخرة.

الموظف العام قدوة في السلوك والانضباط

إن الموظف العام هو واجهة الدولة، وصورتها اليومية في نظر المواطن، ومن ثم فإن عليه أن يُجسّد الالتزام الأخلاقي والسلوكي في ذاته أولاً، قبل أن يطالب به غيره.

فالالتزام بالمواعيد، والهندام المرتب، والنظافة الشخصية، والحرص على وقت العمل، والتعامل بلباقة واحترام—كلها ليست شكليات، بل ضرورات أخلاقية تكشف صدق الالتزام بالواجب العام.

ومن المؤسف أن يخرق بعض المنتسبين للوظيفة العامة القوانين التي يُفترض أن يكونوا أول الملتزمين بها، فعلى سبيل المثال، يستخدمون المركبات الحكومية لأغراض خاصة، أو يُظهرون التسيب والاستعلاء. هذه السلوكيات تنخر في جسد الثقة العامة، وتُضعف هيبة النظام، وتُرسّخ الشعور بالتمييز والظلم.

التنشئة على قيم الوظيفة العامة منذ الصغر

لأن الوظيفة العامة أمانة عظيمة، فإن إعداد الأجيال لها  يجب ألا يُترك للصدف أو الضرورات. بل لا بدّ من غرس قيمها في نفوس الناشئة منذ مراحل التعليم الأولى، من خلال المناهج والأنشطة التربوية، لتتشكل لديهم ثقافة راسخة قوامها احترام الوظيفة، ونبذ المحسوبية، والإيمان بقيمة العمل العام كواجب وطني وأخلاقي.

فمن ينشأ على تقدير الواجب العام واحترام القانون، يكون أصلح لتحمل المسؤولية، وأقدر على أداء الخدمة بعدالة وضمير.

ثمار الاختيار الرشيد في الوظيفة العامة

تحقيق العدالة الإدارية: فالموظف الكفء العادل لا يظلم ولا يُحابِي.

رفع مستوى الأداء المؤسسي: فالتطور لا يأتي إلا من عقول مخلصة ومؤهلة.

تحصين المجتمع من الفساد: حيث تنكمش فرص الرشوة والمحسوبية.

كسب رضا المواطنين: وهو مفتاح الاستقرار ومؤشر لنجاح السياسات العامة.

تعزيز ثقة الناس بالدولة: فالثقة تنشأ حين يرى المواطن أن صاحب المنصب جدير به.

نهوض الأمم: إذ لا تصلح أحوال الدول إلا إذا وُضع «الرجل المناسب في المكان المناسب».

رسالة توعوية ختامية

ينبغي أن نُعلّم أبناءنا أن الوظيفة العامة ليست مجالًا للترف أو التعالي، بل ميدانًا للتضحية وخدمة المجتمع. وهي في جوهرها مسؤولية وطنية، وأمانة دينية، وواجب أخلاقي. ولا بدّ للدولة أن تُعلي من شأن الكفاءة، وتُعيد الاعتبار لمعايير الجدارة، وتُحصّن أبواب التوظيف من آفات المحسوبية.

فبهذا وحده تُبنى المؤسسات، ويُصان العدل، وتُستعاد ثقة المواطن، وتُمهّد سبل الإصلاح الحقيقي.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *