
محمد المهدي الأمين
مستشار التحرير وكاتب صحفي
كثرت في أيامنا هذه الوفيات، وفارقنا الكثير من الأحباب، حتى صار ممشانا إلى المقابر معظم أيام الأسبوع. نشيِّع قريباً أو جاراً أو زميلاً، فنحزن لفراقهم. فالموت مكتوب على الإنسانُ ومهما بذل من أسباب الصحة والنشاط، فإنَّ الموتَ يُدركه، وحيثما فرَّ من الموت، فإنَّه سيجده مُقابل وجهه. قال تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
وفاة سيد ولد آدم
بعد انتشار خبر وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم، اضطرب المسلمون واختلفت أقوالهم، فمنهم من لم يصدق الخبر، ومنهم من حزن حزناً شديداً، حتى انبرى للموقف سيدنا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- وألقى خطبة عصماء، جاء فيها: (من كان يعبد محمداً فإنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت). ثمَّ تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.
وبهذه الكلمات أزال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- حالة الارتباك واليأس التي أصابت المسلمين، وأعادهم إلى رشدهم، وثبتهم على دينهم.
أعرابي يعزّي عبدالله بن العباس
لما توفي العباس بن عبد المطلب- رضي الله عنه-استقبل ابنه عبدالله – رضي الله عنه – التعازي، فجاءه أعرابي فعزّاه ثم أنشد:
أصبر نكن بك صابرين فإنما
صبرُ الرعيةِ بعد صبر الرأسِ
خيرٌ من العباس صبرك بعده
والله خير ٌمنك للعباسِ
قال ابن عباس: ما عزّاني أحد بالعباس مثله.
الرثاء
الرثاء هو فن من فنون الشعر العربي، يُعبّر فيه الشاعر عن حزنه على فقدان شخص عزيز، ويُعدّد فيه صفاته الحميدة، ويعبّر عن الأسى واللوعة.
ويحتوي الرثاء على مشاعر الحزن والأسى والحنين. ويُعدِّد فيه الشاعر مناقب الفقيد وفضائله.
بهدف تخليد ذكرى الميت.
فالرثاءُ والتعديدُ يشتركان في كونهما تعبيراً عن الحزن والأسى على فقد عزيز، غير أنَّ بينهما فروقاً واضحة في الشكل والوظيفة. فالرثاء غالباً ما يكتبه الشعراء والأدباء بأسلوب فنيٍّ يجمع بين الحزن والتأمل، ويهدف إلى تخليد ذكرى الميت وبيان فضائله بأسلوبٍ رفيع. أما التعديد فهو تعبير تلقائي عفوي، يُعبّر فيه الناس، وغالباً النساء، عن الفجيعة، بذكر مناقب الفقيد بصوت حزين أو بكاء مصحوب بالندب، وغالباً ما يكون نثراً غير موزون، وقد يخرج عن حدود الرثاء المقبول إلى النياحة المنهي عنها شرعاً إن اشتمل على صياح أو اعتراض على قضاء الله. فالتعديد ممارسة وجدانية آنية تنبع من عمق الصدمة والفقد.
نماذج من شعر الرثاء
قال المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة الحمداني
يا أُختَ خَيرِ أَخٍ يا بِنتَ خَيرِ أَبٍ
كِنايَةً بِهِما عَن أَشرَفِ النَسَبِ
أُجِلُّ قَدرَكِ أَن تُسْمَيْ مُؤَبَّنَةً
وَمَن يَصِفكِ فَقَد سَمّاكِ لِلعَرَبِ
لا يَملِكُ الطَرِبُ المَحزونُ مَنطِقَهُ
وَدَمعَهُ وَهُما في قَبضَةِ الطَرَبِ
غَدَرتَ يا مَوتُ كَم أَفنَيتَ مِن عَدَدٍ
بِمَن أَصَبتَ وَكَم أَسكَتَّ مِن لَجَبِ
وَكَم صَحِبتَ أَخاها في مُنازَلَةٍ
وَكَم سَأَلتَ فَلَم يَبخَل وَلَم تَخِبِ
طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ
حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً
شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي
تَعَثَّرَت بِهِ في الأَفواهِ أَلسُنُها
وَالبُردُ في الطُرقِ وَالأَقلامُ في الكُتُبِ
كَأَنَّ فَعلَةَ لَم تَمْلَأْ مَواكِبُها
دِيارَ بَكرٍ وَلَم تَخلَع وَلَم تَهِبِ
وَلَم تَرُدَّ حَياةً بَعدَ تَولِيَةٍ
وَلَم تُغِث داعِياً بِالوَيلِ وَالحَرَبِ
أَرى العِراقَ طَويلَ اللَيلِ مُذ نُعِيَت
فَكَيفَ لَيلُ فَتى الفِتيانِ في حَلَبِ
يَظُنُّ أَنَّ فُؤادي غَيرُ مُلتَهِبٍ
وَأَنَّ دَمعَ جُفوني غَيرُ مُنسَكِبِ
بَلى وَحُرمَةِ مَن كانَت مُراعِيَةً
لِحُرمَةِ المَجدِ وَالقُصّادِ وَالأَدَبِ
وَمَن مَضَت غَيرَ مَوروثٍ خَلائِقُها
وَإِن مَضَت يَدُها مَوروثَةَ النَشَبِ
وَهَمُّها في العُلى وَالمَجدِ ناشِئَةً
وَهَمُّ أَترابِها في اللَهوِ وَاللَعِبِ
من رثاء جرير لزوجته
لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ
وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ
وَلَقَد نَظَرتُ وَما تَمَتُّعُ نَظرَةٍ
في اللَحدِ حَيثُ تَمَكَّنَ المِحفارُ
فَجَزاكِ رَبُّكِ في عَشيرِكِ نَظرَةً
وَسَقى صَداكِ مُجَلجِلٌ مِدرارُ
وَلَّهتِ قَلبي إِذ عَلَتني كَبرَةٌ
وَذَوُو التَمائِمِ مِن بَنيكِ صِغارُ
أَرعى النُجومَ وَقَد مَضَت غَورِيَّةً
عُصَبُ النُجومِ كَأَنَّهُنَّ صِوارُ
نِعمَ القَرينُ وَكُنتِ عِلقَ مَضِنَّةٍ
وارى بِنَعفِ بُلَيَّةَ الأَحجارُ
عَمِرَت مُكَرَّمَةَ المَساكِ وَفارَقَت
ما مَسَّها صَلَفٌ وَلا إِقتارُ
فَسَقى صَدى جَدَثٍ بِبُرقَةِ ضاحِكٍ
هَزِمٌ أَجَشُّ وَديمَةٌ مِدرارُ
هَزِمٌ أَجَشُّ إِذا اِستَحارَ بِبَلدَةٍ
فَكَأَنَّما بِجِوائِها الأَنهارُ
مُتَراكِبٌ زَجِلٌ يُضيءُ وَميضُهُ
كَالبُلقِ تَحتَ بُطونِها الأَمهارُ
كانَت مُكَرَّمَةَ العَشيرِ وَلَم يَكُن
يُخشى غَوائِلَ أُمِّ حَزرَةَ جارُ
وَلَقَد أَراكِ كُسيتِ أَجمَلَ مَنظَرٍ
وَمَعَ الجَمالِ سَكينَةٌ وَوَقارُ
وَالريحُ طَيِّبَةٌ إِذا اِستَقبَلتِها
وَالعِرضُ لا دَنِسٌ وَلا خَوّارُ
وَإِذا سَرَيتُ رَأَيتُ نارَكِ نَوَّرَت
وَجهاً أَغَرَّ يَزينُهُ الإِسفارُ
صَلّى المَلائِكَةُ الَّذينَ تُخُيُّروا
وَالصالِحونَ عَلَيكِ وَالأَبرارُ
وَعَلَيكِ مِن صَلَواتِ رَبِّكِ كُلَّما
نَصِبَ الحَجيجُ مُلَبِّدينَ وَغاروا
خلاصة الأمر أنَّ كأس المنية دائرة، ولا بدَّ من أن يتجرعها كلُّ إنسان يوماً من الأيام، نسأل الله حسن الخاتمة.
يا صاحبي إنَّ الحياةَ ثواني
وجميعُ ما فيها خيالٌ فاني
وبها السعادةُ لا يدومُ نعيمُها
والعيــشُ فيها دائمُ النقصانِ
وبها المصائبُ قدْ تعكِّرُ صفونا
فنعيـشُ بين الهـمِّ والأحزانِ
والصبرُ نجعلهُ رفيقَ دروبنا
فهو الدواءُ لعلةِ الأزمانِ
واللهُ يكتبُ مــا يــشاءُ بحكمةٍ
سبحانهُ المولى عــظيم الشـانِ
نرضا بخيـرِ قــضائهِ وبشـرِّهِ
ولهُ عـظيمُ الشكرِ والعرفانِ
كتبَ الفناءَ على الخلائقِ كلِّها
مكتوبُهُ حــقٌّ على الإنسـانِ
فـكـلّ إنـسـان حياةٌ تنتهي
لا شـخصَ في الدنيا لهُ عُمرانِ
ولكل نفسٍ سـاعةٌ أو لـحــظــةٌ
تفنى بها وتصـيـرُ في أكفانِ
شارك المقال