الهويّة العربية الأفريقية في الشعر السوداني: محمد مفتاح الفيتوري نموذجاً (الأخيرة)

400
الفيتوري
Picture of د.الباش أحمد آدم برشم

د.الباش أحمد آدم برشم

أستاذ مساعد في الأدب العربي

الأفريقية في شعر الفيتوري:

• إن الوعي بوجود ثقافة أفريقية سودانية لم ينتبه إليه السودانيون إلا مؤخراً، ولم تحدد معالم وجوده إلا بعد ظهور القوميات الأفريقية وانتفاضاتها الثورية، والشعور بالدور المهم الذي يستطيع أن يطّلع به السودان الموحد المستقل ذو الثقافة العربية الأفريقية وفق ما جاء في خطاب رئيس وزراء السودان في مؤتمر باندونغ سنة 1954م. ولعل من العوامل المهمة التي قوّت من النزعة الأفريقية العربية في سودان ما بعد الحرب العالمية الثانية اتجاه الحركات الأفريقية إلى الإفادة من تجارب النضال العربي، وربط نضالها بحركات التحرر الآسيوي عموماً. فمنذ حرب السويس اتجهت أنظار الأفريقيين إلى مصر والشمال الأفريقي وثورة الجزائر على الأخص، ووجد العرب في هذا الاتجاه سبيلاً إلى تقوية الأواصر العربية الأفريقية في شتى المجالات. «وكان الرئيس عبد الناصر قد أعلن في أكثر من موقف إننا لن نستطيع تحت أي ظرف من الظروف أن نبقى في منأى عن الصراع المرير الذي يجري في أفريقيا اليوم بين خمسة ملايين من البيض ومائتي مليون من الأفريقيين، ولن نقف مكتوفي الأيدي كما لو كان الأمر لا يهمنا». ومنذ ذلك الحين وأنظار الأفريقيين مركزة على العالم العربي وعلى القاهرة على الأخص، وكان السودان في ذلك كله منطقة العبور، وكان من الطبيعي في مثل هذه الظروف الاجتماعية الكبرى أن يقوى تطلّع الشعب السوداني إلى الدور المهم الذي ترشحه له الظروف الإقليمية والدولية، وأن تتجه الأبصار السودانية إلى بعث المغمور من التراث المحلي، وكان في هذه العملية كلها شديد التحسس مع حركات التحرر الأفريقي على وجه الخصوص.

وهنالك العديد من القضايا الأفريقية التي عني بها الأدب السوداني عامة والشعر السوداني على وجه الخصوص، أهمها: 

الدفاع عن إنسانية الأسْوَد في وجه المطامع الاستعمارية.

ب- الهجوم على الفكر الغيبي الذي اتخذه الاستعمار مطية لبسط نفوذه على القارة الأفريقية.

ج- وصف حيرة الأفريقي أمام الاختيار بين حضارة الغرب الحقيقية والتراث المحلي الأفريقي. 

فمأساة الاستقلال البشع للقارة الأفريقية من قبل البيض باتت في النصف الثاني من القرن الماضي قضية إنسانية هزت الضمير العالمي في الشرق والغرب. أقلية بيضاء من المغامرين المتاجرين بالعبيد والماس والعاج تصبح بواسطة الدعم الاستعماري الأوروبي المباشر وغير المباشر صاحبة السيادة الحقيقية على القارة الأفريقية في ميادين المال والسياسة والقوة العسكرية. أما صور استغلال هذه الفئة الحاكمة لدم الأفريقي وكرامته وعرق جبينه، فقد كثر الحديث عنها في المنتديات العالمية، وتناولتها أقلام الأوربيين والأفريقيين على السواء بالإدانة والتجريح.

والذين كتبوا عن تاريخ الاستعمار الأوروبي في أفريقيا لم يعوزهم التركيز على دور المبشرين الذين اختارتهم الإدارة الاستعمارية بعناية فائقة، ودربتهم على أحدث النظم لاستغلال العاطفة الدينية عند الأفريقيين. فألبستهم لبوس المبشرين وأطلقتهم في أنحاء القارة البكر كرسل يدرسون ويخططون لنهب الأفريقيين دونما حاجة لاستخدام الفظاظة والعنف. قال جومو كينياتا: «لقد أمروا الأفريقيين بأن يغمضوا أعينهم زيادة في الخشوع للرب، ولما فعل الأفريقيون ذلك وقالوا في نهاية الصلاة آمين، ثم فتحوا أعينهم وجدوا الإنجيل في أيديهم والأرض عند المبشرين». ويقول في ذلك الشاعر محي الدين صابر:

جاء بالإنجيلِ منهم معشرٌ 

 قيل عنهم من دعاةِ الرّحمة

حرمونا جنّةً ليستْ لهـــــــــــم 

 واستغلوا أرضَنا كالجنّــــــــــــــة

والمثاليات التي قرأ عنها الأفريقي في كتب الغرب لم تجد حيزها من التطبيق لمّا سيطر هذا الأبيض على أفريقيا؛ ولذا ظلّ المثقف الأفريقي معلقاً بين هذه التعاليم الأوروبية التي استهوت لبّه فعزّ عليه أن يطلقها رغم مآسي أصحابها في بلاده، وبين هذا الموروث الأفريقي المثقل بالخرافات والأساطير والجهالات التي تحجب عن ناظريه كل رؤية حضارية سليمة. فلا ثقافة الغرب كما وصلته عن طريق المبشرين أرضت طموحاته الإنسانية، ولا هذا الموروث العزيز على قلبه البعيد من عقله. وهذا القلق يملأ الشعر الأفريقي بترانيمه الحزينة.

ويمكننا القول أن قضية الاستعمار في أفريقيا شكلت نبعاً دفاقاً حالماً للشعراء السودانيين يغرفون منه مليّاً كيفما شاءوا، وأمدتهم بإلهام وحيوية لا تنقطع. هذا هو الفيتوري رائد التغني بأفريقيا يصوّر لنا هذا الإلهام الذي أبدع أغانيه التي لن تموت، يقول:

لم تمت فيّ أغانيّ 

فما زلت أغنّي

لك يا أرضَ انفعالاتي وحزني

للملايين التي تنقش 

في الصّخر وتبني

والتي ما فتئت تُبدع فنّي

لقد شعر الفيتوري وأضرابه بواجبهم في مساعدة شعوب قارتهم لدحر الاستعمار، ولذلك فهم يشحذون الكلمة كما تشحذ السيوف المسلولة من أغمادها، ثم يطلقونها في وجه أعدائهم ذخيرة مدمرة. فهو هنا يدعو أفريقيا للاستيقاظ من سباتها العميق، وهي وطنه وأرض أجداده، يقول:

أفريقيا استيقظي

استيقظي من حلمك الأسود

أفريقيا النّائيه

يا وطني يا أرضَ أجداديه

إنّي أناديك

ألم تسمعي صراخَ آلامي وأحفاديه

أما إذا انتقلنا إلى المجال الثقافي الاجتماعي الأفريقي، فذلك بحر يذخر بشعر الشعراء السودانيين، حيث عبّروا عن قضايا ملحّة ومصيرية تتعلق بمسألة اللون والدم والانتماء الثقافي والهوية. يقول الفيتوري في ذلك:

قلها لا تجبنْ، لا تجبنْ، لا تَجْبُنْ

قلها في وجهِ البشريّة

أنا زنجيٌّ وأبي زنجي الجد

وأميّ زنجيّة

أنا أسودٌ لكني حرٌّ

أمتلكُ الحريّة

وفي هذه المسألة يقول الدكتور عبده بدوي: «والفيتوري حين تعرّض للقارة لم يكن قد قرأ عن مشكلاتها أو تغلغل في أعماقها أو وقف على تاريخها، وإنما هي موجة المشاعر الحاقدة التي تريد أن تفرّغ طاقتها في أي وعاء غريب، فحدّة شعوره نابعة من نفسه المتوهجة وشعوره بالضياع. فهو يدعو للقومية الأفريقية ثم يسخر بالأفريقيين، لو أن أحد البيض الذين يكرهون السود ويحقرونهم أراد أن يصوّرهم في صور قبيحة منفرة لما استطاع شرّاً من هذه الصور، … هذه الرسوم المخيفة المنفّرة لا ندري كيف تخدم هي بدورها قضية السود:

إفريقيا إفريقيـــــا استيقظـي

 استيقظي من حلمك الأسود

قد طالما نمت ألم تسأمـــــــــــــــــي 

 ألم تملّي قــــدم الســـــــــــــــــــــــيّد

قد طالما استلقيتِ تحت الدُّجى 

مجهدةً في كوخِــــــك المجهد

مصفرّة الأشواقِ معتوهــــــــــــــــــــــة 

 تبني بكفّيها ظـــــــــــــــلام الغد

جوعانة تمضغُ أيامَــــــــــــــــــــــــــــها 

 كحارسِ المقبـــــــــــرةِ المُقعــــد

عريانة الماضي بلا عـــــــــــــــــــزّة 

 تتــــوج الآتي ولا سُـــــــــــــــؤدد

فالشاعر يصدر فنّاً عن حقد وعن جهل بتاريخ القارة الذي لم يكن عارياً والذي عرف حضارة الفراعنة، وممالك غانا، ومللى والأشانتي، ويتحدّث نكروما عن بعض هذه الأمجاد … لقد استطاع أجدادنا منذ قرون طويلة أن يشيدوا امبراطورية شامخة، شيدوها قبل أن تكون لبريطانيا أي أهمية في الوجود، تظللها أجواء الحضارة من تمبكتو إلى باماكو إلى شاطئ المحيط؛ إنّ واجبنا أن ننحني بالاحترام لأجدادنا الذين وضعوا أسس تقاليدنا القومية».

لقد احتاجت الشخصية الأفريقية لسنين طويلة امتدت لقرون قبل أن تستوي على سوقها وتصدح بالقول: أنا زنجي، أنا أفريقي. وارتبط شعراؤنا الأفارقة بإرث الكفاح الأفريقي الثقافي الفكري الذي بدأ أولاً في الخارج في مؤتمرات الحركة الأفريقانية ثم دفعوا برياح الثقافة في الأشرعة الأفريقية بالصورة التي وصلت إلينا من محمد الفيتوري حين أعلن انتماءه لأفريقيا صراحة في وقت كان السودانيون في شمال القطر يتجهون بأنظارهم كلية نحو الشمال أو الشرق، نحو الجزيرة العربية، وكان بذلك من البيانات الثقافية الأولى في حركة التعديل الثقافي والانضباط الفكري في السودان. يقول الشاعر:

أفريقيا النّائيه يا وطني يا أرضَ أجداديه

إنّي أناديك ألم تسمعي صراخَ آلامي وأحفاديه

والوطنية العرقية قد تتخذ مجالاً أضيق من الأفريقية أو العروبة متجهة نحو القبيلة ولكن ليست القبيلة الواحدة حتى لا تكون عنصرية بل مجموع القبائل السودانية فيعتز بها الشاعر. يقول في ذلك الشاعر مرسي صالح سراج:

حين خطّ المجدُ في الأرضِ دُروبا 

عَزْمَ تِرْهاقا وإيمان العُروبة

عَرَباً نحنُ حملْناها ونُوبة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *