النيابة العامة السودانية ومسؤولية تحقيق العدالة أثناء الحرب

135
د. نصر الدين ابوشيبة

د. نصرالدين أبوشيبة الخليل

قانوني - أكاديمي

• يشهد السودان منذ 15/4/2023م حرباً مدمرة، بسبب تمرد قوات الدعم السريع، والتي تم تصنيفها من قبل اللجنة الفنية السودانية لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بمكافحة الإرهاب وتمويله، كمليشيا إرهابية في تاريخ 6/11/2023م. وقد خلف هذا النزاع المسلح خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، فضلاً عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي رصدتها العديد من المنظمات المستقلة المحلية والدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان، بالإضافة إلى الجرائم التي قد ترقى إلى مستوى أن تكون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. في ظل هذه الظروف الاستثنائية البالغة التعقيد، يبرز الدور الحيوي والمهم للنيابة العامة السودانية كسلطة مستقلة، مناط بها مسؤولية أساسية، تتمثل في ضمان تحقيق العدالة، ومحاسبة الأشخاص المسؤولين عن هذه الفظائع والجرائم.
وفي هذا المقال الموجز، سوف نسلط الضوء على التحديات التي تواجه النيابة العامة في السودان في أداء مهامها خلال هذه الحرب، وكذلك بيان أهمية دورها في حفظ حقوق الضحايا، والمساهمة في بناء سلام دائم ومستقر في السودان، وسنقدم في نهاية المقال عدداً من المقترحات التي نرى أنها تساعد في تعزيز دور النيابة العامة في هذه الفترة وبعد انتهاء الحرب بحول الله وقوته قريباً، وذلك في النقاط التالية:

أولاً: التحديات التي تواجه النيابة العامة في ظل الحرب:

إن النيابة العامة في السودان في هذه الفترة، تواجه عدداً من التحديات الكبيرة، التي قد تؤثر سلباً على قيامها بأعمالها على الوجه المطلوب، ومن هذه التحديات نذكر ما يلي:
1- تدهور الأوضاع الأمنية: إن استمرار الحرب يؤدي إلى تدهور الأوضاع الأمنية في المناطق التي يدور فيها القتال، الأمر الذي يصعب معه وصول أعضاء النيابة العامة والأجهزة المساعدة الأخرى؛ مثل شرطة الجنايات العامة، والإدارة العامة للأدلة الجنائية، وإدارة الطب الشرعي إلى تلك الأماكن، للقيام بالتحريات والإجراءات اللازمة، للكشف عن الوقائع المتعلقة بالجرائم المرتكبة في الوقت المناسب، من أجل جمع الأدلة وحفظها، منعاً للتلاعب فيها. وكذلك هذا الوضع الأمني المتدهور يتطلب اتخاذ إجراءات استثنائية من جانب النيابة العامة وشرطة الجنايات العامة – بالإضافة إلى ما تقدم – تتمثل في ضمان سلامة الشهود والضحايا.

2- تدمير البنية
التحتية: أدى النزاع إلى تدمير أو تضرر مقار ومكاتب النيابة العامة في كل ولايات السودان التي دخلتها قوات الدعم السريع، وهذا التدمير – الذي يبدو أنه متعمد – شمل إتلاف كل محاضر الدعاوى الجنائية التي كانت محفوظة في مكاتب النيابة العامة؛ الأمر الذي يؤثر سلباً في سير العمل العدلي في تلك الولايات.

3- نزوح الكوادر العاملة بالنيابة العامة: دفعت هذه الحرب عدداً كبيراً من أعضاء النيابة العامة والكوادر المساعدة إلى النزوح والخروج من المناطق التي تدور فيها العمليات العسكرية، مما أثر سلباً على القدرة التشغيلية للنيابة العامة.

4- صعوبة الوصول إلى المعلومات: يؤثر استمرار الحرب في بعض ولايات السودان سلباً على إمكانية الحصول على المعلومات والوثائق اللازمة، للتحقيق والتحري في الجرائم في الوقت المناسب، خاصة أن كثيراً من سكان تلك المناطق قد نزحوا إلى أماكن أخرى أكثر أمناً داخل السودان، أو اضطروا إلى اللجوء إلى دول أخرى.

5- تحصين النيابة العامة من التأثير السياسي: من ضمن التحديات التي قد تتعرض لها النيابة العامة، الضغوط السياسية، أو التدخلات من بعض الأطراف المشاركة في الحرب، فيجب بذل المساعي الحثيثة لتحصين النيابة العامة منها، من خلال التمسك بتطبيق مبدأ سيادة حكم القانون دون تحيز أو تمييز، والعمل على توفير الحماية الكافية لأعضاء النيابة العامة وأسرهم من أي خطر يهدد سلامتهم الشخصية بسبب قيامهم بواجباتهم الوظيفية، مما ينعكس إيجاباً على تعزيز استقلالية النيابة العامة، ونزاهة الإجراءات القانونية التي تقوم بها.

6- كثرة الدعاوى الجنائية: هذا التحدي يمكن تصوره من جانبين: الجانب الأول: تواجه النيابة العامة في الولايات الآمنة، التي نزح إليها عدد كبير من السودانيين، ضغطاً هائلاً في عدد البلاغات التي ترفع إليها، خاصة وقد صدر قرار من النيابة العامة أجاز فتح البلاغات المتعلقة بالانتهاكات التي حدثت أثناء الحرب في أي نيابة عامة في السودان. وانعكس ذلك في ارتفاع عدد الدعاوى الجنائية المنظورة أمام النيابة العامة في تلك الولايات، بدرجة تتجاوز الطاقة البشرية للنيابة العامة وجهاز الشرطة المعاون لها، المتمثل في شرطة الجنايات العامة. وأما الجانب الثاني، فهو يتعلق بالوضع بعد انتهاء الحرب. فمن المتوقع أن يرتفع عدد القضايا المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الجنائية التي وقعت أثناء الحرب بشكل كبير، الأمر الذي يضع عبئاً إضافياً هائلاً على كاهل النيابة العامة، يوجب عليها استجماع كل طاقاتها لمواجهة هذا التحدي.

7- توفير خدمة العدالة وجعلها متاحة، وتسهيل إجراءات الوصول إليها: وهذا التحدي يتمثل في قدرة النيابة العامة على الاستجابة والتأقلم السريع مع الوضع الاستثنائي الذي تعيش فيه بعض ولايات السودان بسبب الحرب، وذلك من خلال ابتكار وسائل حديثة لتلقي البلاغات والتحري فيها، من أجل جمع الأدلة، وضمان حماية الشهود والضحايا.

ثانياً: أهمية دور النيابة العامة في تحقيق العدالة أثناء الحرب وبعدها:

على الرغم من التحديات الكثيرة والكبيرة التي تواجه النيابة العامة السودانية، والتي ذكرنا جانباً منها سابقاً، فإن دور النيابة العامة يظل دوراً محورياً وأساسياً في تحقيق العدالة في السودان أثناء الحرب وبعد انتهائها، ويظهر ذلك من أهمية مهام واختصاصات النيابة العامة وسلطاتها المنصوص عليها في قانون النيابة العامة لسنة 2017 وقانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991. فيما يلي نذكر بعض مهام النيابة العامة على سبيل المثال، وذلك كما يلي:

1- التحقيق والتحري في الجرائم وما يتصل بذلك من إجراءات: من المهام الرئيسية للنيابة العامة وفقاً لما جاء في المادة (11) من قانون النيابة العامة، تمثيل الدولة والمجتمع في الادعاء العام والتقاضي في المسائل الجنائية، والإشراف على إجراءات ما قبل المحاكمة، وأخذ العلم بأي جريمة والتحري فيها والإشراف على سير الدعوى الجنائية والتحري الأولي، وتولي إجراءات التحقيق فيها، واتخاذ جميع الإجراءات والتدابير المتعلقة بها وفقاً لأحكام القانون. ولا شك في أن هذه المهام والسلطات تشمل فيما تشمل جميع الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت خلال الحرب، وإجراءات جمع الأدلة والمحافظة عليها، ومتابعة الإجراءات القانونية حتى مرحلة تقديم المتهمين بارتكاب تلك الجرائم إلى القضاء لمحاكمتهم عن تلك الجرائم.

2- حماية حقوق الضحايا: يجب على النيابة العامة اتخاذ كافة الإجراءات القانونية اللازمة لحماية حقوق الضحايا، وضمان حصولهم على التعويضات والإنصاف. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنه في هذه الحرب تم ارتكاب عشرات المجازر التي راح ضحيتها آلاف الأشخاص، وقد تم دفن الكثير منهم في مقابر جماعية دون تحديد هوياتهم الشخصية، وتم حرق جثث عدد آخر منهم، وتم دفن بعضهم أحياء – كما ظهر من خلال مقاطع الفيديو التي تم بثها ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي – وهذا الأمر لا شك يلقي على النيابة العامة عبئاً إضافياً، فبالإضافة إلى تحقيق العدالة لهؤلاء الضحايا، كذلك لا بدّ من معرفة هويتهم الشخصية، من خلال الاستفادة من المعارف العلمية الحديثة ذات الصلة، وتبليغ أهلهم وذويهم، وإعادة دفنهم وفقاً للمراسم المتبعة في دفن الموتى، وفي مقابر معروفة، والقيام بما تقدم يعد حقاً من حقوق هؤلاء الضحايا وذويهم.

3- ضمان سيادة حكم القانون: من مهام النيابة العامة التي نص عليها في المادة (11) من قانون النيابة العامة، بسط مبدأ سيادة حكم القانون، وتوفير العدالة الناجزة في النظام القانوني. فالنيابة العامة من خلال قيامها بواجباتها، تساهم في تعزيز سيادة القانون، ومنع الإفلات من العقاب؛ وهو أمر ضروري لبناء المجتمع العادل والمستقر، الذي تسود فيه روح الأمن والسلام بين جميع مكوناته.

4- المساهمة في المصالحة الوطنية: يمكن أن تؤدي النيابة العامة دوراً مهماً في عملية المصالحة الوطنية، من خلال المساهمة في تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات؛ مما يساعد في التئام الجراح وتعزيز الثقة.

5- التعاون مع الآليات الدولية: يمكن للنيابة العامة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية والآليات الدولية الأخرى، لضمان محاسبة مرتكبي الجرائم الخطيرة.

ثالثاً: مقترحات تساعد في تعزيز دور النيابة العامة:

لتمكين النيابة العامة من أداء دورها بفعالية في تحقيق العدالة في السودان، نجد أنه لا بدّ من اتخاذ عدة إجراءات، من بينها:

1- توفير الدعم المادي واللوجستي: يجب على الحكومة والمجتمع الدولي توفير الموارد المالية اللازمة للنيابة العامة، حتى تتمكن من إعادة بناء وتأهيل مقار النيابة العامة التي تعرضت للتدمير بسبب الحرب، مع العمل على توفير المعدات والتدريب اللازم لكوادرها. وكذلك توفير المعينات اللازمة، التي تمكّن أعضاء النيابة العامة من التحرك إلى المواقع التي تم ارتكاب الجرائم فيها، خاصة المجازر الكبرى، وذلك من أجل القيام بالإجراءات القانونية اللازمة للكشف عن تلك الجرائم ومرتكبيها، وجمع الأدلة المادية من مسرح الجريمة وحفظها. وعلى أعضاء النيابة العامة عدم الاكتفاء بالبقاء في مكاتبهم ومقار النيابة العامة، وانتظار أن ترفع لهم البلاغات؛ بل عليهم التحرك بمجرد أخذهم علماً بوقوع الجريمة، فإن الدعوى الجنائية كما يتم فتحها بموجب البلاغ أو الشكوى، تفتح كذلك بناءً على علم لدى شرطة الجنايات العامة أو وكيل النيابة، وذلك وفقاً لما جاء في المادة (33) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991. وكذلك عليهم السعي لأخذ أقوال الشهود والضحايا، حتى لو كانوا في أماكن النزوح داخل السودان أم كانوا لاجئين خارجه.

2- العمل مستقبلاً على الاستفادة من التكنولوجيا وحوسبة أعمال النيابة العامة، كما هو جارٍ عليه العمل في كثير من دول الإقليم من حولنا. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن النيابة العامة أطلقت في العام الماضي تطبيق “عريضة”، الخاص بجمع المعلومات عن البلاغات التي تم قيدها قبل الحرب في الولايات المتأثرة بالحرب، وذلك من أجل حصر البلاغات التي تم تقييدها قبل الحرب.

3- العمل على ضمان استقلال النيابة العامة: يجب حماية النيابة العامة وأعضاء النيابة العامة من أي تدخلات سياسية، أو أي مؤثرات أخرى قد تؤثر سلباً على استقلالها ونزاهة عملها؛ والاستقلالية المعنية هنا هي استقلال النيابة العامة من الناحية الإدارية والناحية المالية، واستقلالية وكيل النيابة في اتخاذ قراراته الفنية داخل محاضر التحري والتحقيق، دون تأثير حتى من رؤسائه في الهيكل الوظيفي للنيابة العامة، وتأكيد مبدأ أن أعضاء النيابة العامة مستقلون في أداء واجباتهم، ولا يجوز التأثير عليهم، ولا سلطان عليهم في ذلك لغير القانون.
وينبغي على أعضاء النيابة العامة – بوصفهم أطرافاً أساسيين في مجال إقامة العدل – الحفاظ دوماً على شرف مهنتهم وكرامتها.

4- تعزيز قدرات الكوادر: من الضروري أن تعمل قيادة النيابة العامة على وضع برامج تدريبية متخصصة لأعضاء النيابة العامة والمحققين في مجال التحري والتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والعنف الجنسي المرتبط بالنزاعات المسلحة، وبصورة عامة في مجالات العمل الجنائي.

5- توفير الحماية للشهود والضحايا: يجب العمل بالتنسيق مع الجهات الأخرى ذات الصلة على وضع آليات فعالة لحماية الشهود والضحايا، لضمان تعاونهم في التحريات والتحقيقيات التي تتم بواسطة النيابة العامة، أو تكون النيابة العامة مشرفة عليها.

6- تعزيز التعاون المحلي والدولي: يجب تعزيز التعاون بين النيابة العامة والسلطات الأخرى التي لها علاقة بعمل النيابة العامة، مثل شرطة الجنايات العامة، والسلطة القضائية، والمنظمات الحقوقية، ومنظمات المجتمع المدني ذات الصلة، والآليات القضائية الدولية والإقليمية ذات الصلة؛ لتبادل المعلومات والخبرات.
إن النيابة العامة في السودان خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان، تقع عليها مسؤولية بالغة الأهمية تجاه مستقبل السودان، فالنيابة العامة من خلال ممارستها لمهامها وواجباتها القانونية باستقلالية ونزاهة، تساهم بشكل فعال وقوي في تحقيق العدالة، وبناء أسس سلام دائم ومستقر في السودانظ لذا لا بدّ من التعاون وتضافر الجهود من جميع الأطراف المعنية، لتقديم الدعم اللازم للنيابة العامة، حتى تنهض بواجباتها على أحسن وجه.
والله الموفق.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *