النسيان: بين نعمة التخفيف ونقمة الضعف

71
د. عصام صالح

قضية اجتماعية وصحية تستحق البحث والتأمل

 

• كتير النسيان ظاهرة إنسانية عامة لا يسلم منها أحد، وهو جزء طبيعي من نظام عمل الدماغ البشري.

أحيانًا يكون النسيان رحمةً من الله، يمكّن الإنسان من تجاوز مآسيه وأحزانه، وأحيانًا يكون نقمة حين يعطل التعلم والعمل ويهدد الذاكرة والهوية.

وفي السودان، كما في كثير من البلدان العربية، ازدادت الشكوى من ضعف الذاكرة والنسيان المبكر بين طلاب الجامعات والأطباء والعمال، بل وحتى بين كبار السن الذين يعانون من ضغوط الحياة المزمنة وسوء التغذية.

هذه الظاهرة لم تعد مجرد عرضٍ فردي، بل أصبحت قضية اجتماعية وصحية تستحق البحث والتأمل.

أولًا: ما هو النسيان؟

النسيان هو فقدان مؤقت أو دائم للمعلومات أو الخبرات أو الأحداث المخزنة في الدماغ.

وفي معظم الأحيان، لا تكون المعلومة قد «اختفت»، بل لا يمكن الوصول إليها وقت الحاجة بسبب خلل في عملية الاسترجاع أو ضعف الترميز عند إدخالها أول مرة.

ثانيًا: أنواع النسيان:

النسيان العابر:

يحدث نتيجة التعب أو الانشغال أو الضغط النفسي، وغالبًا ما يكون مؤقتًا.

النسيان المرتبط بالعمر:

يتدرج مع التقدم في السن بسبب تراجع نشاط الخلايا العصبية.

النسيان النفسي:

ناتج عن رغبة لا شعورية في محو الذكريات المؤلمة أو الصدمات.

النسيان المرضي (كالزهايمر):

ناتج عن اضطرابات عضوية في الدماغ ويؤثر على الوظائف اليومية.

النسيان الدوائي:

بسبب أدوية مهدئة أو منومة أو مضادات اكتئاب.

النسيان الناتج عن السهر أو الإرهاق الذهني:

وهو شائع بين طلاب المدارس والجامعات.

ثالثًا: كيف تعمل الذاكرة؟:

تمر عملية التذكر بثلاث مراحل مترابطة:

التسجيل (Encoding): تحويل المعلومة إلى شكل يمكن تخزينه.

التخزين (Storage): حفظ المعلومة في مراكز الذاكرة، وأهمها منطقة الحُصين (Hippocampus).

الاسترجاع (Retrieval): استدعاء المعلومة عند الحاجة.

أي خلل في واحدة من هذه المراحل يؤدي إلى النسيان.

رابعًا: الأسباب العامة للنسيان:

1. الأسباب النفسية

التوتر المزمن والقلق المستمر.

الاكتئاب وانخفاض الحافز.

الصدمات العاطفية والحرمان.

2. الأسباب الجسدية

نقص الفيتامينات (B12، الحديد، D).

أمراض الغدة الدرقية.

قلة النوم وسوء التغذية.

الجفاف والإرهاق العام.

3. الأسباب الدوائية

المهدئات، المنومات، مضادات الحساسية.

الإفراط في الكحول أو المنبهات.

4. الأسباب الاجتماعية الحديثة

الاعتماد على الهواتف الذكية في التذكر (ما يسمى بالنسيان الرقمي).

قلة القراءة والنقاش.

تعدد المهام دون تركيز.

خامسًا: النسيان الناتج عن تعاطي المخدرات في السودان:

في السنوات الأخيرة، تزايدت معدلات تعاطي المخدرات في السودان بشكل مقلق، وأصبح لها أثر مباشر على الذاكرة، والانتباه، والإدراك، خصوصًا بين الشباب.

المخدرات تُحدث تغيرات كيميائية في الدماغ تؤدي إلى خلل في عمل الخلايا العصبية المسؤولة عن حفظ المعلومات.

أبرز أنواع المخدرات المنتشرة وتأثيرها على الذاكرة

الترامادول (Tramadol):

مسكن قوي للألم، لكنه يسبب خمولًا ذهنيًا واعتمادًا نفسيًا، وضعفًا واضحًا في الذاكرة قصيرة المدى.

البنقو (القنب أو الماريجوانا):

الأكثر شيوعًا في السودان، خاصة في الجامعات.

يحتوي على مادة THC التي تضعف منطقة الحُصين المسؤولة عن تكوين الذكريات.

يؤدي إلى نسيان متكرر وضعف التركيز والتفكير التحليلي.

الآيس (الكريستال ميث):

من أخطر الأنواع انتشارًا في السنوات الأخيرة.

يؤدي إلى تلف دائم في خلايا الدماغ، وهلاوس، وتدهور إدراكي حاد حتى بعد الإقلاع.

الكبتاجون والمنشطات:

تستخدم خطأً لزيادة التركيز أثناء الدراسة، لكنها تسبب إنهاكًا للدماغ وفقدانًا لاحقًا للذاكرة.

الكحول:

يسبب ما يعرف بـ Blackouts (فقدان ذاكرة مؤقت)، ومع الإدمان الطويل يؤدي إلى تلف دائم في الفص الأمامي للدماغ.

الشمّة والدخان والمهدئات:

تضعف تدفق الدم للدماغ وتؤدي إلى بطء التفكير ونسيان متكرر.

دراسات وملاحظات سودانية

تشير تقارير صادرة عن جمعية أطباء الرعاية الأولية السودانيين ببريطانيا إلى أن أكثر من 60% من متعاطي المخدرات في السودان أظهروا درجات متفاوتة من ضعف الذاكرة قصيرة المدى، وأن كثيرًا منهم يحتاجون إلى إعادة تأهيل معرفي طويل المدى حتى بعد التوقف.

الحلول المقترحة

نشر حملات توعية تربط بين المخدرات وتدهور الذاكرة.

علاج الإدمان كحالة طبية لا جنائية.

إنشاء مراكز تأهيل نفسي ومعرفي.

تعزيز دور الأسرة والمدرسة في الاكتشاف المبكر.

سادسًا: الفرق بين النسيان الطبيعي والزهايمر

المقارنة النسيان الطبيعي الزهايمر

العمر: في أي سن عادة بعد سن 60

طبيعة النسيان: نسيان مؤقت وتفصيلي نسيان الأحداث الحديثة كليًا

التكرار أحيانًا دائم ومتكرر

التذكّر بعد التذكير ممكن صعب أو معدوم

التأثير على الحياة اليومية  بسيط شديد ومقيد للحياة

سابعًا: كيف نحافظ على الذاكرة؟

 1. تنشيط الدماغ

القراءة اليومية.

تعلم لغة أو مهارة جديدة.

حل الألغاز وحفظ القرآن.

2. النشاط البدني

المشي والرياضة اليومية تزيد تدفق الدم إلى الدماغ وتحفز إفراز هرمونات النمو العصبي.

3. التغذية

تناول الأسماك، التمر، المكسرات، الخضروات الطازجة.

تجنب الدهون المشبعة والمقليات.

شرب الماء الكافي.

4. النوم

النوم العميق من 6 إلى 8 ساعات ضروري لتثبيت المعلومات في الذاكرة الطويلة.

5. تقليل التوتر

الصلاة، التأمل، المشي في الطبيعة، جلسات الاسترخاء.

6. التقليل من الاعتماد على التكنولوجيا

استخدام الذاكرة الذاتية بدل الهاتف في حفظ المواعيد والأسماء.

ثامنًا: علاج النسيان

العلاج يعتمد على السبب:

النفسي: علاج القلق والاكتئاب.

الدوائي: ضبط الجرعات أو استبدال الأدوية المؤثرة على الدماغ.

الغذائي: تصحيح نقص الفيتامينات.

المرضي: استخدام أدوية الزهايمر مثل Donepezil وMemantine.

التأهيلي: تدريب الدماغ وتمارين تقوية الذاكرة.

تاسعًا: النسيان كنعمة

ليس كل نسيانٍ شرًّا؛ فلو ظل الإنسان يتذكر كل ما مرّ به من آلامٍ ومواقفٍ قاسية، لتعطلت حياته.

النسيان أحيانًا هو آلية حماية نفسية تساعد الإنسان على الشفاء والمضيّ قدمًا.

عاشرًا: نحو مجتمع واعٍ بالذاكرة

يجب أن تتحول صحة الدماغ إلى ثقافة مجتمعية.

فكما نهتم بتغذية الأطفال ووقاية القلب، ينبغي أن نهتم أيضًا بـ»غذاء الذاكرة».

يمكن للجمعيات الطبية والمدارس والجامعات في السودان أن تطلق حملات مثل:“ذاكرة قوية.. لحياة أفضل”لتشجيع الشباب على القراءة، والتغذية السليمة، والابتعاد عن المخدرات، وتنمية الوعي بأهمية النوم والراحة النفسية.

الحادي عشر: تمارين عملية لتقوية الذاكرة والتركيز

لأن الذاكرة مثل العضلة، تقوى بالتمرين وتضعف بالإهمال، فإن المداومة على بعض الأنشطة البسيطة يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا خلال أسابيع قليلة.

1. طريقة الربط الذهني (Association Method)

تعتمد على ربط المعلومة الجديدة بشيء مألوف.

مثلًا: عند حفظ رقم الهاتف (0912…) يمكن ربط «91» بعام معين أو حدث شخصي، و»2» بعدد الأبناء أو الأقارب.

هذه الطريقة تجعل المعلومة ترتبط بذاكرة عاطفية يسهل استدعاؤها.

2.طريقة القصر العقلي (Memory Palace)

من أقدم وأقوى الأساليب المستخدمة حتى في تدريب الأطباء وطلاب الطب لحفظ المعلومات.

الفكرة أن تتخيل مكانًا تعرفه جيدًا (بيتك مثلًا)، وتضع المعلومات التي تريد تذكرها في أماكن محددة داخله.

ثم عندما تريد استرجاعها، تتخيل نفسك تمشي في ذلك المكان وتسترجع المعلومات واحدة تلو الأخرى.

3. الخرائط الذهنية (Mind Maps)

أسلوب بصري يساعد على تنظيم الأفكار.

ابدأ بكلمة أو فكرة في المنتصف، ثم ارسم فروعًا تمثل العناصر المرتبطة بها، مع استخدام الألوان والرموز.

الخرائط الذهنية تنشط نصفي الدماغ معًا (الإبداعي والمنطقي)، مما يعزز التذكر والفهم.

4. التمارين العددية واللغوية اليومية

حاول تذكر قائمة المشتريات دون كتابتها.

استرجع أرقام الهواتف أو أسماء زملائك القدامى.

اقرأ فقرة جديدة يوميًا وحاول تلخيصها من الذاكرة بعد ساعة.

5. التحفيز السمعي والموسيقي

الموسيقى الهادئة أو التلاوة المتكررة بصوت منخفض تنشّط مراكز الذاكرة السمعية وتساعد على تثبيت المعلومات.

6. الذاكرة الحركية

اكتب ما تحفظه بيدك بدل قراءته فقط؛ فالحركة تعزز التثبيت العصبي للمعلومة.

7. حافظ على الاستمرارية

الذاكرة تتحسن بالتدريب المنتظم، وليس بالمجهود المفاجئ.

خصص وقتًا يوميًا بسيطًا لتحدي نفسك في التذكر بدل الاعتماد الكامل على الأجهزة.

ثاني عشر: نصائح للأسر والمجتمع

شجعوا الأطفال على ألعاب الذكاء بدلاً من الألعاب الإلكترونية السطحية.

وفروا بيئة هادئة ومنظمة للنوم والدراسة.

قللوا من استخدام الهواتف أثناء الطعام والنقاش العائلي.

تابعوا كبار السن بانتظام لتقييم الذاكرة، فالتدخل المبكر يصنع فرقًا كبيرًا.

خاتمة

النسيان قدرٌ إنساني، لكن التعامل معه مسؤولية.

بينما لا يمكننا أن نمنع الشيخوخة أو نوقف مرور الزمن، يمكننا أن نعيش بذاكرة نشطة ودماغٍ صحي من خلال الوعي، والراحة، والتغذية، والتدريب

 المستمر.

فلنبدأ من اليوم بالعناية بذاكرتنا كما نعتني بقلوبنا، لأن الذاكرة هي جذرُ الحكاية، وهي ما يجعل الإنسان إنسانًا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *