

د. كمال يوسف علي
• لاحظنا في الأيام الأخيرة من شهر مايو الجاري 2025 وبخاصة في الخامس والعشرين منه استرجاع بعض من أناشيد حقبة مايو في السبعينات، ومن ذلك (يا حارسنا وفارسنا، في بطاقاتنا مايو، أب عاج اخوي) وغير ذلك من أغنيات تتذكرها الأجيال التي عاشت تلك الحقبة من مختلف الأعمار، وهي أعمال غنائية كثيرة العدد قدمها عدد كبير من كبار الشعراء السودانيين ولحّنها وأداها كبار المطربين ومنهم محمد وردي، محمد ميرغني، عثمان حسين، إبراهيم عوض، عبد العزيز محمد داؤود، شرحبيل احمد، إدريس إبراهيم وغيرهم، وكانت للمطرب سيد خليفة مكانة خاصة في هذا الحيز نسبة للكم الكبير الذي قدمه من تلك الأناشيد. بالنظر إلى البناء الموسيقي لتلك الأعمال فسنجد أن الكثير منها كان في صيغٍ كبيرة وقُدم في ألحانٍ جميلة احتوت على أفكار موسيقية متنوعة ومتنامية.

ومن أمثلة ذلك نشيد يا فارسنا وحارسنا، الذي كتب كلماته محجوب شريف ولحّنه وتغنى به محمد وردي في ثنائية مع محمد ميرغني إلى جانب كورّس من الأصوات المصاحبة، وهو عمل موسيقي رفيع من حيث البنية اللحنية والنماء والتنويع الموسيقي، كذلك نشيد في بطاقاتنا مايو الذي اتسم بذات الصفات الفنية وغير ذلك من الأعمال الأخرى ومن أبرزها نشيد (المبايعة) الذي كتب كلماته مصطفى سند ولحّنه وغناه عثمان حسين، وحشد لأدائه معه مجموعة من المطربين هم عثمان مصطفى، صلاح مصطفى، محمد ميرغني، أم بلينا السنوسي، ثنائي العاصمة، إلى جانب كورّس الأداء الجماعي.
وهو نشيد تعددت فيه الأفكار الموسيقية والانتقالات اللحنية والمقامية، وهو يُعيد للذاكرة الملحمة أو قصة ثورة التي تغنى بها محمد الأمين من كلمات هاشم صديق. يجدر بالذكر أن تلك الأعمال وعلى الرغم من قيمتها الفنية الرفيعة إلا أن ارتباطها بمايو كحقبةٍ سياسية وبشخصية جعفر نميري بشكلٍ مباشر جعلها عرضةً للتلاشي حتى قبل زوال عهد مايو بانتفاضة مارس/ أبريل 1985.
وهنا لا بد من التأكيد على أننا لسنا بصدد محاكمة عهد مايو، بل ما يهمنا هو إظهار الكيفية التي تعاملت بها مختلف الأنظمة التي حكمت السودان مع الموسيقى والغناء ومحاولة توظيفها لتوطيد أركانها، وغني عن القول هنا أن الأنظمة المقصودة هي تلك التي فرضت نفسها من خلال الانقلابات العسكرية، وبالرجوع إلى ما قبل مايو في هذا السياق فسوف نعود إلى أول انقلاب وحُكم عسكري قاده إبراهيم عبود في نوفمبر 1958، والتي تغنى بها وردي (في سبعتاشر نوفمبر هب الشعب طرد جلاده)، ونسبة لطول المُدّة الزمنية منذ ذاك العهد وبسبب تلاشي الأعمال الغنائية المرتبطة بذاك النظام لم يتبق الكثير في الذاكرة المحفوظة إلى جانب عدم وجود وثائق تشير إلى ما تم تقديمه في تلك الفترة.

أما النظام الثالث والذي ما زال السودان يرزح تحت وطأته فهو انقلاب الإسلامويين على الديمقراطية الثالثة في يونيو 1989، فهم وعلى الرغم من طول فترة تسلطهم لم يستطيعوا أن يتركوا عملاً موسيقياً غنائياً يُمكن تذكره أو العودة لسماعه لما فيه من قيم فنية وإبداعية، فما قدموه من محاولاتٍ متواضعة في بداية عهدهم لم يستطع أن يصمد حتى على مستوى الأجهزة الإعلامية التي سيطروا عليها فلم تقدم تلك الأعمال المحدودة فتلاشت ونُسيت منذ سنواتهم الأولى وربما لا نستطيع أن نتذكر الآن سوى مطلع (هبت ثورة الإنقاذ)، إذ لم يتوفر لأيٍ من أعمال تلك الفترة ما توفر لأناشيد مايو من شعراء وملحنين ومطربين تبنوا شعارات مايو في بداياتها وتفاعلوا معها بالصدق الذي أنتجوا به تلك الأعمال حتى وإن تراجعوا عنها بعد ذلك. وهنا تُمثلُ المفردةُ ثورة نقطة ارتكازٍ مهمة في تبين مدى التأثير الذي تركته تلك الأعمال على المجتمع السوداني ومدى رسوخها فيه، واضعين في الاعتبار أن كل تلك الأنظمة الانقلابية قد وسمت نفسها بأنها ثورة، فكانت ثورة نوفمبر، ثورة مايو وثورة الإنقاذ، وربما عاد عدم رسوخ أعمالها إلى أنها كانت ثورات حقيقة، ونسبةً لارتباطها بشعارات محددة زالت وتلاشت بزوالها كحكومات، هذا في مقابل الثورات الحقيقة التي سطّرها الشعب السوداني في مختلف مراحل تطوره الحديث وبخاصة ثورة أكتوبر 1964 والتي سجّلها ووثّقها التراث الموسيقي الغنائي في باب ما يُعرف بالأكتوبريات وهو سجلٌ عريضٌ جزل، أسهم فيه الشعراء والمؤلفون الموسيقيون والأعلام من مطربي السودان وما زال أثر هذا السِجل حياً مستمراً في رفع الحس والمشاعر الوطنية لدى مختلف الأجيال حتى تلك التي استمعت له حديثاً.

فأنشودة مثل قصة ثورة لم ولن تكون من الأعمال المنسية يوماً، إلى جانب غيرها من الأغنيات التي سجلها محمد الأمين نفسه ومحمد وردي وأبو عركي البخيت وغيرهم بل ستظلُ ملهمةً لمفاهيم الصمود والنضال من خلال كل عناصر بنائها الفنية من حيث النصوص الأدبية، والتلحين والتنفيذ والأداء الموسيقي، ومردُ ذلك هو صدق وحقيقة هذه الثورة في مقابل ما لم ينل من الثورة إلا اسمها، وهو ما ينطبق على مارس/ أبريل 1985 وديسمبر 2018، إذ أصبحت (حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي) شعاراً ممتداً لامس شغاف شباب ثورة ديسمبر فتغنوا به وحملوه شعاراً حيا هو وغيره من أناشيد وأغنيات مارس/ أبريل، أما ثورة ديسمبر وبحكم ارتباطها بالشباب وقيامها بشكلٍ مباشر على العمل الإبداعي فقد سجلت نمطاً جديداً من الغناء والأداء الموسيقي الذي ارتبط بمرحلة تاريخية لعبت فيها الأساليب الجديدة مثل الراب والهيب هوب والتكنو دورها باعتبار تسيُّد هذا الجيل الشاب للمشهد، فكان مغني الراب أيمن ماو رمزاً ألهم الشباب والأطفال ورددوا أغنياته وساروا بها في مواكبهم، وكان رمزاً من رموز ثورة ديسمبر كما كان محمد الأمين رمزاً لأكتوبر، إلى جانب العديد من الشباب الذين ظهروا في تلك الفترة.
ويبقى أن مدى الصدق في الفعل الباعث على إنتاج العمل الموسيقي الغنائي ينعكس على ما يتغنى بذاك الفعل من أناشيد وأغنيات.
شارك المقال