الموسيقى والحضارة

84
صورة واحد
Picture of د. كمال يوسف علي

د. كمال يوسف علي

• لازمت الموسيقى الإنسان منذ أن أوجده الله علي الأرض، فالباحث عن بداية لمعرفة الموسيقى أو أول اكتشاف لها، كالباحث عن أول ضاحك أو أول باكِ من بني البشر، والإيقاع Rhythm وباعتباره أهم عناصر الموسيقى لازم الإنسان في طبيعة تكوينه نسبة لما يتسم به جسمه وأعضائه الحيوية وكيفية عملها من سمات إيقاعية إلي جانب تأثر الإنسان كمخلوق بالإيقاعات الخارجية التي تطرق أذنه؛ الأمر الذي ينعكس بدوره علي حياة الإنسان الوجدانية فيصبغها بذات الطابع الإيقاعي في ورود الأفكار علي الأفئدة في شكل مد وجذر، وكان للموسيقى دورها في حياة الإنسان الأول ومنذ نشأته وكانت من أولي الخبرات التي عرفها في تاريخه ثم كانت محل تقديره واعتباره حينما ارتقي مدارج سلم الحضارة، فلم تكن لديه مجرد أداة للتسلية والترفيه أو ذات طابع عفوي تلقائي في صدورها، بل كانت عملاً فكرياً نظر إلي مدى تأثيرها فيه نفساً وجسماً فارتبطت بمعتقداته ومراسيم طقوسه وبتكوُّن مفاهيمه وتطورها ميتافيزيقياً، اجتماعياً وعاطفياً، فاحتلت بذلك مكانتها في تربية الشخص وتكوين المواطن الصالح. 

في كل من حضارات ما بين النهرين والتي سادت العراق القديم قبل آلاف السنين من الميلاد وفي الحضارة الفرعونية القديمة 3400 ق. م. كانت الموسيقى تتبع للمعابد والقصور نتيجة للاعتقاد في قوة تأثيرها على الإنسان وضرورة التحكم فيها وفي قواعدها وأحكاماً للسيطرة عليها حتى لا ينفلت زمام الأمور في الدولة، فسن الكهنة القوانين التي تقضي بممارسة الموسيقى الجيدة التي تطهر النفس وتحث على الفضيلة ومكارم الأخلاق. أيضاً كانت للموسيقى نفس المكانة والتقدير في الفلسفة الصينية القديمة والتي كانت تربط بين انتظام أمور الدولة وحالتها العامة وبين شكل ومضمون الممارسة الموسيقية فيها، وفي كل هذه الحضارات ارتبطت الموسيقى بالدين والفلك، لكن أقوي أشكال الربط بين المعتقد الديني والموسيقى كان في الحضارة الهندية والتي تعتقد في تحكم الموسيقى في كل مناشط حياة الإنسان وحفظ توازنه العقلي وربطه بالإله فأخذت بذلك موسيقي الحضارة الهندية شكلاً من الكمال ـ صوفياً ، فلسفياً وعلمياً ـ منذ عهود قديمة ولخصوا ذلك في معتقدLove is God and God is Music . 

في الحضارة اليونانية أيضاً ساد الاعتقاد في قوة تأثير الموسيقى علي الإنسان وأن نفعها أو ضررها يمكنه أن يمتد ليشمل المجتمع بأثره فيؤثر علي نظمه اجتماعياً وسياسياً وكان فلاسفة اليونان يرون (أنه من الممكن تقوية الروح الأخلاقية والوطنية عن طريق الموسيقى والتي تؤدي بدورها إلي تقوية الدولة) وكانوا يعتقدون في أن نغمات الموسيقى بطراوتها ووفرتها، قد تخمد الحماس الحربي أو تلطف من حدته فصاغوا على هذا الأساس نظرية الايثوس Ethos Doctrine والتي تفسر التأثيرات النفسية والحسية التي تحدثها الموسيقى في الدولة والإنسان والتي تؤكد علي ضرورة خلق التوازن بين الروح والجسد في تربية الإنسان. 

في العصور الوسطي في أوربا جُعلت الموسيقى ضمن الحكمة الرباعية Quadriviam إلى جانب الهندسة والحساب والفلك، أما فلاسفة العرب فقد رأوا في الموسيقى أنها (حكمة عجزت النفس عن إظهارها في الألفاظ المركّبة فأظهرتها في الأصوات البسيطة، فلما أدركتها عشقتها، فاسمعوا النفس من حديثها)، وبالنظر إلى هذا التقارب في تصورات تلك الحضارات للموسيقى علي الرغم مما بينها من مساحات زمنية أو جغرافية أو ثقافية، نستطيع أن نري بوضوح ما كان يجري بين هذه الحضارات من حوار وتثاقف، فبغض النظر عن نوع دوافع ومسببات هذا التداخل من وقت لآخر ومن مكان لغيره، فقد كانت الموسيقى محل ترحيب وتقدير دون الزج بها في تفاصيل الصراع بين جهة وأخرى، بل كانت تفرض سطوتها علي الإنسان وتجبره علي تقبل نتاج حتى عدوه، ففي نقوش وآثار بابل وآشور ما يوضح استمتاع الآشوريين بغناء أسراهم المصريين كما تعكس النقوش علي جدران المعابد المصرية وجود الفرق الموسيقية الآشورية التي تعزف وتغني للملك، وبشكل صريح ومباشر يقودنا إلي ذات النتيجة قول المؤرخ اليوناني هيرودوت: (سمعت من الأغاني والألحان المصرية ما صار بعد ذلك في اليونان ألحاناً شعبية تتردد في كل مكان) وقول أفلاطون: (على شعب اليونان أن ينتقي من الموسيقى المصرية ما يشاء إن أراد أن يطلع علي موسيقى وفنون الآخرين، لما فيها من عناصر جيدة فنياً، أخلاقياً وتربوياً).    

بنفس القدر من الموضوعية والتواضع الذي تلاقحت به رؤى إنسان العالم القديم في جوانب الموسيقى النظرية والفلسفية، فقد تفاعلت أيضاً في الجوانب التقنية والمادية، فمن حيث النظم النغمية مثلاً، فقد كان السلم الموسيقي خماسياً في كل حضارات العالم القديم حتى وإن تغير بعد ذلك إلى نظم أخرى. 

أما الآلات الموسيقية وبمختلف أنماطها فتمثل الدليل المادي والملموس علي مدى هذا التلاقح والتكامل في صياغة الأفكار وتكميلها، فالطبول وبمختلف أشكالها وأحجامها وخامات صنعها ومناسبات استخدامها وطرق العزف عليها تؤكد علي بنائية العقل الإنساني في تكرار شروط النموذج رغماً عن اختلاف معطيات الجغرافيا والمناخ وغير ذلك من المتغيرات (ملحق رقم:1) أما الآلات الوترية وعلي اختلاف نماذجها فهي تنتشر بذات الشروط والمواصفات عبر الحضارات والقارات، فآلة الليرة Lyre في حضارة اليونان هي نفسها الكنارة في الحضارة الفرعونية وكنور في العبرية وهي السمسمية والطمبورة المصرية حديثاً والطمبور (الربابة) بأنواعه ومسمياته المختلفة في السودان ومختلف الدول الأفريقية (ملحق رقم:2) والحال نفسه بالنسبة لآلات (الهارب) المختلفة (ملحق رقم:3) وآلات العود (ملحق رقم:4) وآلة السنطور الآشورية والمعروفة الآن بالسنبال والشبيهة بآلة القانون العربية (ملحق رقم:5)، وبذا تبدو القيمة الأسمى للموسيقى في تجاوزها لكل حدود الثقافة والجغرافيا.

 

شارك الموضوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *