
نجيب عصام يماني
كاتب صحفي سعودي
• يقول لودفيغ فان بيتهوفن:- (الموسيقى وحيٌ أسمى من كل حكمة وفلسفة).
ما قاله بيتهوفن لم يكن مجازًا عابرًا ولا زخرفًا بلاغيًّا، بل كشفٌ عن سرٍّ مكنون بأن هناك لغةً أعظم من كل اللغات، وأعمق من المنطق، وألصق بالروح من أي خطاب. إنها لغةٌ لا تُحسن التفسير، بل تُحسن الكشف؛ لا تُقيم الحُجّة، بل تُقيم الدهشة.
الموسيقى تُحدّثنا كما لو كنّا نعرفها منذ الأزل. لا تحتاج إلى مفرداتٍ ولا إلى قواعد نحوٍ وصرف، ومع ذلك تفهمها الروح في أول ارتجافتها. هي اللغة التي تُخاطب ما وراء العقل، وتطرق أبواب القلب فتفتحها بلا استئذان. الحكمة تُفسّر والفلسفة تُجادل، أما الموسيقى فهي تُنصتُ إلينا من الداخل، وتُعيدنا إلى ذواتنا التي هربنا منها طويلًا.
الموسيقى ودهشة الوجود
عندما يتردّد لحنٌ في فضاء الصمت، يختلّ ميزان الزمن. لحظةٌ قصيرة تمتدّ حتى تصير أبدًا، ودقيقةٌ واحدة تختصر عمرًا كاملًا من التجربة. الموسيقى تُعيد تشكيل علاقتنا بالوقت: تُوقفه حينًا، وتُسرّعه حينًا، وتمنحه نكهةً لم يعرفها من قبل. وفي تلك اللحظة، حين نتماهى مع النغمة، نشعر أن الكون يتنفّس معنا، وأن أنفاسنا صارت جزءًا من إيقاع الحياة الكبرى.
الموسيقى ليست متعةً فحسب، بل تجربةُ حضورٍ كامل: فيها يُستعاد الإنسان إلى فطرته الأولى، إلى تلك الومضة البدائية حين كان الصوت أوّل دهشةٍ عرفها الكائن الحي. إنها ذاكرة البشر الجماعية، تحفظ في طيّاتها أصداء الطقوس القديمة، وهمسات الأمهات، وأناشيد الحقول، وصيحات الحروب، وتراتيل المعابد. كل نغمةٍ تحمل أثر أجيالٍ رحلت، وتبقى لتُعلّم الأجيال التي لم تولد بعد.
الموسيقى وتفكّك المنطق
الفلسفة تُجادل لتُثبت، والحكمة تُفسّر لتُطمئن، أما الموسيقى فتهدم هذا البناء كله لتقيم بناءً آخر: بناء الإحساس الصافي. اللحن لا يقبل المناقشة، إنه يفرض حضوره: إمّا أن تنصت له وتذوب فيه، أو تفلت منه وتبقى خارجه. لكنه إن دخل، فلا مناص من أن يعلّمك ما لم يُدرَّس في كتاب، ويُريك ما لم يُرَ بالعين.
هي ليست نقيض الفلسفة، بل أختها التي تُكملها: تُعلّمنا ما لا تصيغه الكلمات، وتُقدّم لنا ذلك الفيض الذي لا يحتمله المنطق، كأنها الوجه الآخر للمعرفة؛ الوجه الذي يشرق بالعاطفة والدهشة.
الموسيقى تعليم الروح
في حضرة اللحن، نتعلّم الصبر حين يبني نفسه طبقةً بعد أخرى، ونتعلّم التواضع حين يرفعنا ثم يتركنا برفقٍ على الأرض، ونتعلّم الشجاعة حين يفتح أبواب الحزن ويطلب منّا أن ندخله بلا خوف. الموسيقى ليست درسًا في السمع فحسب، بل في العيش. إنها أخلاقٌ تُعاش: الإصغاء، المشاركة، الانسجام، والتوازن. وحين يجتمع الناس في أغنية واحدة أو في إيقاعٍ مشترك، يولد نوعٌ من الأخوّة الخفية. تُذيب الموسيقى الحدود، وتخلق مواطَنةً وجدانيةً عابرة للغات والأعراق. فجأةً يصبح البشر كيانًا واحدًا يهتزّ على إيقاعٍ واحد، كأنّ العالم نفسه وُجد ليكون سيمفونية.
الموسيقى والذاكرة والشفاء
هناك أنغامٌ لا تعود إلينا من خارجنا، بل من أعماقنا نحن. لحنٌ قديم يكفي ليوقظ طفولةً كاملة، ورنّةُ وترٍ واحدة تستحضر وجهًا غاب أو لحظة وداعٍ طالت. الموسيقى خريطةُ الذاكرة، تُعيد ترتيب الأزمنة في قلبنا كما يشاء اللحن.
وليس عبثًا أن وُصفت بأنها شفاء: فهي قادرة على أن تُرمّم كسور الروح، أن تمنح الإنسان قدرةً على احتمال ما لا يُحتمل، وأن تُعيد النبض إلى قلوبٍ أنهكها الصمت. قد لا تشفي الجسد كلّه، لكنها تُهيئه للتوازن، وتُداوي الروح بما يعجز عنه الدواء.
الإصغاء سرّ المعرفة
الموسيقى ليست ترفًا ولا زينةً للحياة؛ إنها إحدى طرق فهمنا لأنفسنا. في كل نغمةٍ تُفتح نافذة، وفي كل إيقاعٍ يتكشّف سرّ. لا نحتاج أن نفهمها بالعقل، يكفي أن نتركها تسكن القلب.
اجلس، يا صديقي، في حضرة لحنٍ عذب، دع الزمن يتباطأ، دع الكون يهمس، ودع نفسك تُصغي بلا شرط. ستكتشف أن الحقيقة لا تحتاج إلى كلمة واحدة، بل إلى وترٍ واحدٍ يضرب في أعماقك، فيُوقظك كما لو كنتَ تحيا للمرة الأولى.
شارك المقال