الموت… الحقيقة التي لا مهرب منها

31
نجيب يماني

نجيب عصام يماني

كاتب صحفي سعودي

• في عالمٍ مليءٍ بالأوهام، تقف حقيقة الموت كالجبل الراسخ، لا يهتزّ ولا يلين.

لا يُؤجّل، لا يُساوم، لا يتبدّل ولا يُغيّر موعده لأجل أحد، لا تُستدرّ عاطفته بالدموع، ولا يُخدع بالأمل.

هو الحقيقة الوحيدة التي لم يُصِبها الزيف، ولم يمسّها الشكّ، ولم تُخادعها الحواس.

الموت… أمرٌ إلهيٌّ لا مردّ له

جعل الله الموت بابًا لا بد من دخوله، قال تعالى:-

(كل نفسٍ ذائقةُ الموت) [سورة آل عمران: 185]

(أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة) [سورة النساء: 78]

فلا ملك يجير، ولا جاه يُمهل، ولا علم يمنع.

هو أمر إلهيّ، كتبه الله في اللوح المحفوظ، وسُطّر في صفحة القدر، يوم خُلِقَ الإنسان من طين، ونُفخ فيه من روحه.

هو ليس انتقامًا ولا غيابًا عبثيًا، بل انتقالٌ لحقيقةٍ أخرى، لعالمٍ آخر، لخلودٍ لا يشيخ.

فلسفة الموت نهاية أم بداية؟

لعل أعظم مفارقة في حياة الإنسان أن يخشى الموت، وهو يعلم يقينًا أنه مولودٌ له كما وُلد للحياة.

إنّ الموت لا يعني الفناء بقدر ما يعني التحوّل… هو منعطفٌ وجوديٌّ، تنتقل فيه الأرواح من دار الفناء إلى دار البقاء.

قال تعالى:-

(ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) [سورة المؤمنون: 15-16]

في الموت تُسكَت الأجساد، لكن الذكرى تبقى تنبض فينا.

يموت الجسد، لكن الكلمة، والضحكة، والنصيحة، والصورة، واللمسة… تبقى.

التجربة اليومية للموت الأصغر تنبيه رباني لا يغفل

كل ليلة، يذوق الإنسان شيئًا من الموت…

ينفصل عن وعيه، يُسلم جسده للنوم، لا يدري ما يجري حوله. وهذا ما وصفه القرآن الكريم بقوله:

(الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى) [سورة الزمر: 42]

إنها رسالة ربانية يومية، تقول لنا: «هكذا تموتون… وهكذا تُبعثون».

في كل صباح ننهض من نومنا وكأننا بُعثنا من جديد. نستيقظ فنفتح أعيننا، نحرك أطرافنا، نسترجع ذاكرتنا، وتلك هي القيامة الصغرى.

فهل نتفكر؟

يقول صلى الله عليه وسلم حين يستيقظ:

«الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور». 

[رواه البخاري ومسلم]. 

معاناة الفقد حين تنكسر الروح ولا يُرى كسرها

ليس هناك أشدّ من وجع الفقد…

ذاك الوجع الصامت الذي لا يُرى، لكنه ينهش القلب كلّما تذكّرنا ضحكة الراحلين، مكان جلوسهم، صوتهم في الهاتف، أو حتى كوب قهوتهم المنسيّ على الرف. نبكيهم في الليل بصمت، ونمضي في النهار كأنّ شيئًا لم يكن.

ولكن الحقيقة أننا نعيش معهم كل لحظة… في غيابهم أكثر من حضورهم.

في ركن من البيت، صورة قديمة…

في درجٍ منسيّ، رسالة بخطّ اليد…

في زاوية القلب، دعاء لم يُستجب، أو عناق لم يكتمل… الموت ليس موتهم وحدهم، بل موت شيء فينا نحن أيضًا.

آثار الراحلين أرواح تمشي معنا في الظلال

كم هو غريب أن نستطيع أن نمشي ونأكل ونبتسم ونحلم بعد رحيل من كانوا سبب كل تلك الأفعال…

لكنهم يظلون معنا… نراهم في أحلامنا، نكلمهم في سرّنا، ونشتاق لهم في الزحام. تتحول آثارهم إلى أنفاس معلّقة… يعلّموننا في غيابهم معنى الحب الحقيقي، والوفاء الصامت، والوجع النبيل.

كيف نتعايش مع الموت؟

لا حلّ إلا بالتصالح معه…

أن نفهم أن الحياة هدية مؤقتة، لا تكتمل إلا عندما ندرك أنها ستُسلب يومًا. أن نعيش اللحظة كأنها الأخيرة… أن نحب بصدق، ونعطي بسخاء، ونعفو دون أن نُهين، لأننا لا نعرف متى يأتي الموعد.

ولعل أفضل ما نفعله هو أن نُخلِّد أحبابنا بالدعاء، وبالعمل الصالح، وبالحبّ الذي لا يموت. فالأرواح لا يحدّها قبر، والذكريات لا تمحوها السنون.

قال تعالى:-

(وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) [سورة البقرة: 25]

(والذين آمنوا وعملوا الصالحات سنُدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) [سورة النساء: 57]. 

 الموت… معراجٌ إلى المعنى

في كل جنازة نُشيِّع بعضًا منّا… وفي كل قبرٍ ندفن شيئًا من حكايتنا… لكننا نحيا بالرجاء، ونُحيي موتانا بوفائنا لهم.

ويبقى الموت.. هو ذاك الدرس القاسي، والألم المضني، وعذاب الأرواح التي تفتقد الأعزاء بسبب الموت.. فالزوج الذي تموت شريكة حياته، يصبح تائهًا ضائعًا يفتقد دفئها ورائحتها وضحكاتها، فيصير البيت موحشًا لا يطاق.. والأبناء الذين يصدمون برحيل والدتهم، تكسر قلوبهم الصغيرة الأحزان، وتظلم الدنيا أمام أعينهم، لأن الأم هي المعنى الحقيقي للحياة عندهم.. ويا ليت أن الموت تأخر قليلًا حتى يستمتع الأخ بوجود شقيقه الذي يحب، ولكن آه من قسوة الموت وسرعته وهو يخطف الشقيق المحبوب، والأم الرؤوم، والأب الذي يشكل الملآذ الآمن والقدوة المقدسة…

أعمق درس في الحياة… وأصدق لحظة في الوجود

(يوم يُبعثون لا يخفى على الله منهم شيء… لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار) [سورة غافر: 16].

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *