المنتدى الثقافي السوداني في أكسفورد: إحياء التراث وتعزيز الهوية السودانية عبر الأجيال
Admin 7 فبراير، 2025 163

رصد: نميري مجاور
في قلب مدينة أكسفورد التاريخية، حيث يتلاقى الفكر مع الثقافة، أقام المنتدى الثقافي السوداني فعاليته الشهرية الكبرى في فبراير 2025. هذا المنتدى الذي أسس في 2004 من قبل الدكتورة خديجة صفوت وعدد من الأكاديميين والمثقفين السودانيين. الاستاذ مجدي الحواتي الاستاذ بشير ابراهيم والأستاذ ابراهيم الهندي والأستاذ محمد الباقر والدكتور انس الوسيلة،الأستاذة تيسير حمد والأستاذة سناء عدلان والأستاذة رشا هاشم، أصبح اليوم منصة رئيسية لنشر الثقافة السودانية في الأكاديميات العالمية، مستقطبًا العديد من المهتمين بالشأن السوداني من الأكاديميين والطلاب والمجتمع السوداني في الخارج.
بعد فترة من التوقف، عاد المنتدى إلى الساحة الثقافية في يونيو 2024 ليُعاود تقديم الفعاليات الثقافية التي تسلط الضوء على التراث السوداني في طيفه الأدبي والاجتماعي والسياسي. ولعل أبرز فعاليات المنتدى الأخيرة كانت الندوة التي عُقدت في 2 فبراير 2025، والتي استضافت الدكتور أحمد الشاهي، الباحث والأكاديمي المتخصص في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، في محاضرة ثرية عن المجتمعات السودانية، وخصوصًا تلك التي تنتمي إلى منطقة الشمال السوداني.

الدكتور أحمد الشاهي: رحلة فكرية إلى أعماق الشمال السوداني
يعد الدكتور أحمد الشاهي من الأسماء اللامعة في مجال الدراسات الأنثروبولوجية، وخصوصًا في ما يتعلق بالمجتمعات السودانية. بدأ الشاهي رحلته الأكاديمية في خمسينيات القرن الماضي، حيث دخل إلى أكسفورد في عام 1959 لمتابعة دراساته. وبالرغم من حياته الأكاديمية المزدحمة في الغرب قادته بحوثه الى وطنه الثاني السودان. ففي عام 1966، انطلقت رحلته إلى شمال السودان، التي شهدت سنوات طويلة من البحث والتفاعل مع المجتمعات السودانية. تكشف المحاضرة التي ألقاها الدكتور أحمد الشاهي عن رؤية واسعة ومعمقة لهذه المجتمعات وكيفية تطورها عبر العصور، بدءًا من الغزو التركي في 1820، مرورًا بالاستعمار الإنجليزي المصري، وصولًا إلى فترات ما بعد الاستقلال.
الشايقية: حضارة وتاريخ ممتد
ركز الدكتور الشاهي في محاضرته على قبيلة الشايقية، إحدى القبائل السودانية التي تحمل أهمية كبيرة في تراث الشمال السوداني. قدم دراسة شاملة حول هذه القبيلة، وتاريخها، وأثرها العميق في تطور الحياة الاجتماعية والثقافية في السودان. في حديثه، استعرض الشاهي كيف استطاعت هذه القبيلة التفاعل مع الأنماط الثقافية المختلفة التي مرت بها المنطقة، وارتباطها الوثيق بالتغيرات السياسية والاجتماعية في العصر الحديث.
الشايقية لم تكن فقط مصدرًا للتراث الشعبي والحرفي في السودان، بل كانت أيضًا حاملة لجزء كبير من التاريخ السوداني السياسي، خاصة في فترة ما بعد الاستقلال . ففي تلك الفترة، لعب العديد من أبناء الشايقية دورًا كبيرًا في الحياة السياسية والثقافية، حيث كانت لهم بصمات واضحة في العديد من القضايا التي شكلت ملامح الدولة السودانية.
رحلة الدكتور الشاهي: إلى السودان
لطالما كان الشاهي يسعى لفهم أعمق للحضارة السودانية. في رحلته إلى شمال السودان، اختار الشاهي أن يكون في قلب الأحداث، متنقلًا بين مختلف المناطق والقبائل ليكتشف معالم الحياة الاجتماعية، واصفا ذلك في رحلتي الى الشمالية كتجربة بحثية . وكان يرى أن فهم الثقافة السودانية يبدأ من معرفة تقاليدها ومجتمعاتها المحلية، ولذا قام بدراسة معمقة حول العادات والتقاليد في هذه المناطق، وخاصة في قبائل الشمال.
إضافة إلى ذلك، تناول الشاهي في محاضرته كيفية تأثير الغزو التركي والانجليزي المصري في تشكيل الذاكرة الاجتماعية للسودانيين، وكيف أن هذه الحقب التاريخية قد ألقت بظلالها على الهوية الثقافية في الشمال السوداني.
التداخل الثقافي والتأثيرات السياسية على المجتمع السوداني
الحديث عن الشايقية وجغرافيتهم الاجتماعية لم يقتصر على الماضي، بل ناقش الشاهي أيضًا تأثير العوامل السياسية في صياغة الحياة الثقافية والاجتماعية في شمال السودان . وعزز حديثه بالتطرق إلى سياسات حكم مايو في الستينيات، التي كان لها تأثير ملحوظ على النشاط الثقافي والسياسي في السودان.
الشاهي أيضًا سلط الضوء على الدور الذي لعبته الشخصية السودانية في الشمال في هذا التحول السياسي، مشيرًا إلى كيفية تأثر المجتمعات السودانية بالصراعات الداخلية والخارجية، وكيف كان للأدب والفكر دور أساسي في معالجة هذه التحولات.
كما أشار إلى بعض الكتاب والمثقفين الذين أثروا في الحياة الثقافية في هذه الحقبة الزمنية، مثل الكاتب الفرنسي فريدي كاين الذي سجل تجاربه في السودان في مؤلفه «رحلتي إلى مروي»
من أبرز الإسهاما الفكرية الذي تناول فيه تجربته البحثية في شمال السودان، والذي حمل عنوان «رحلتي إلى مروي». في هذا الكتاب، أبدع الكاتب في تقديم سرد تاريخي ثقافي للمجتمع السوداني، مبرزًا التنوع الكبير الذي يميز المناطق الشمالية، من ثقافات وعادات وتقاليد.
كما تناول الشاهي في مؤلفات التأثيرات التي تركتها الحروب والغزوات التركية، والإنجليزي المصري على هذه المناطق، بالإضافة إلى دور الكتاب والمثقفين في تعزيز التواصل بين هذه المجتمعات المتنوعة.
وقد أتاح الكتاب للقراء في الغرب فهمًا أعمق للمجتمع السوداني في شماله، وذلك من خلال شهادات تاريخية وأدبية جمعتها ذاكرة الشاهي خلال سنوات من البحث.

التوثيق الثقافي: أهمية استعادة الذاكرة السودانية
من القضايا الجوهرية التي نوقشت في المنتدى كانت أهمية توثيق التراث الثقافي السوداني، ليس فقط عبر الكتابات المحلية ولكن أيضًا من خلال الأقلام الأجنبية. فقد أكد الإعلامي نميري مجاور، وهو أحد المشاركين في المنتدى، على أهمية توثيق تاريخ السودان من خلال وجهات نظر كتاب ومؤرخين أجانب. مشروعه البحثي الذي يحمل عنوان «تاريخ السودان بعيون وأقلام أجنبية» يهدف إلى تقديم سرد تاريخي متنوع من زوايا نظر متعددة.
مجاور يعتقد أن التوثيق الثقافي ينبغي أن يتجاوز التحديات التي فرضتها العولمة، والتي يمكن أن تُهمش التراث الثقافي الوطني. لذا، يتطلع مشروعه إلى تسليط الضوء على السودان بطريقة تتجاوز الصور النمطية التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية.
المنتدى الثقافي: جسر بين الأجيال
أحد الأهداف المهمة للمنتدى الثقافي السوداني هو ربط الأجيال المختلفة من السودانيين في المهجر. وبهذا المعنى، يعتبر المنتدى منصة حيوية للشباب السوداني في المملكة المتحدة لاستكشاف تراثهم الثقافي والتفاعل مع كبار المثقفين. بينما يمثل هذا المنتدى أيضًا فرصة قيمة للجيل الأكبر لتوجيه الجيل الشاب، وتعليمهم تجاربهم التاريخية والثقافية، وهو ما يسهم في تعزيز الهوية السودانية لدى الأجيال القادمة.

التوجهات المستقبلية للمنتدى الثقافي السوداني
على الرغم من أن المنتدى قد مر بفترات صعبة بسبب التحديات المختلفة، إلا أن مستقبل المنتدى يبدو واعدًا. حيث يهدف المنتدى إلى تعزيز أنشطته الشهرية، وتوسيع آفاق التعاون الأكاديمي مع المؤسسات الأكاديمية العالمية.
من بين الأهداف المستقبلية أيضًا تكثيف الندوات التي تركز على قضايا التراث السوداني والتاريخ، وتعميق الحوار بين السودانيين في المهجر والعالم الأكاديمي الغربي. كما يسعى المنتدى إلى فتح مجالات جديدة للبحث الأكاديمي من خلال شراكات مع مؤسسات عالمية.
الخاتمة
المنتدى الثقافي السوداني في أكسفورد لا يقتصر على كونه منبرًا ثقافيًا فحسب، بل هو جسر للتواصل بين الأجيال السودانية المختلفة في الشتات وبين المجتمع الأكاديمي الغربي. من خلال الأنشطة الشهرية، والاستضافات الأكاديمية، يواصل المنتدى دوره في تعزيز الثقافة السودانية وتوسيع دائرة النقاشات الفكرية حولها. وبدون شك، يبقى المنتدى الثقافي السوداني في أكسفورد منارة فكرية وأداة مهمة لتعريف العالم بتاريخ السودان وهويته الثقافية.
شارك الخبر