المليشيا تدمر البنية التحتية وتحاصر المواطن

130
محمد كمير جاهز

محمد كمير

كاتب صحفي

• في صباحين متتاليين، شهدت مدينة بورتسودان هجومين داميين بطائرات مسيّرة، استهدفا مستودعين مختلفين لتخزين الوقود في الميناء الشرقي، ضمن تصعيد غير مسبوق ضد البنية التحتية الحيوية للدولة. الانفجارات التي تسببت في حرائق كثيفة ودمار بالغ، لم تكن مجرد عمليات تخريبية، بل رسائل مباشرة، تقول إن الحرب لم تعد عند خطوط النار، بل دخلت في قلب أعصاب الاقتصاد، وفي عمق حياة المواطن السوداني اليومية.

بحسب المعطيات الميدانية، فقد أدى الاستهداف إلى احتراق مخزون ضخم من الجازولين والبنزين، يمثل احتياطي البلاد لما يعادل شهرين كاملين من الاستهلاك. إنه ليس مجرد وقود احترق، بل وقت ثمين ضاع، وخط إمداد استراتيجي انقطع، وواقع معيشي على وشك الانفجار مع اشتداد الضغط على الأسواق. لا تتوقف الخسائر عند الحدود التقنية أو المالية، بل تتعداها إلى جوانب إنسانية واجتماعية مباشرة، في بلد يعاني أصلاً من وهن في بنيته الاقتصادية وأجهزته الخدمية.

تداعيات هذه الضربات كانت سريعة، وكان أولها شللاً كاملاً لمطار بورتسودان الدولي، الذي يُعد آخر منفذ جوي فعّال في البلاد بعد توقف مطار الخرطوم منذ بداية الحرب. إغلاق المطار أدى إلى تعليق الرحلات الدولية، واضطراب شديد في حركة الإمدادات والبعثات الإنسانية، وأدخل آلاف المسافرين في دوامة من الغموض والانتظار. وليس من المتوقع أن تعود الخطوط الجوية، سواء المحلية أو العالمية، إلى العمل دون إعادة النظر في شروط التأمين، التي ارتفعت بالفعل بصورة حادة، نتيجة التصنيف الجديد للمنطقة كمجال عالي الخطورة. هذه الزيادة ستُحمَّل مباشرة على تذاكر السفر وخدمات النقل، لتجعل من الوصول إلى السودان أو مغادرته مغامرة مكلفة قد لا يقوى عليها كثيرون.

أما في البحر، فالمشهد ليس أفضل حالاً. شركات التأمين والشحن بدأت فعلاً في مراجعة وثائقها، ورفعت كلفة التأمين على السفن القادمة إلى بورتسودان، بما فيها تلك التي تحمل سلعاً أساسية وغذائية. هذا يعني أن أي واردات مقبلة، سواء كانت قمحاً أو دواءً أو مواد بناء، ستدخل البلاد بكلفة أعلى، مما سيُترجم سريعاً إلى زيادات في أسعار البيع للمستهلك. إن الحلقة الأضعف هنا هو المواطن، الذي يدفع الثمن مرتين: مرة من قدرته الشرائية، ومرة من أمنه الغذائي والاقتصادي.

في الداخل، بدأت مؤشرات الاختناق في الظهور، رغم أن آثار الأزمة لم تبلغ ذروتها بعد. فالمخزون الموجود حالياً في بعض محطات الوقود وشركات التوزيع الكبرى لا يزال يُصرف بشكل محدود، لكنه لن يصمد طويلاً. وخلال الأيام القادمة، ومع نفاد هذه الكميات، من المتوقع أن تشهد البلاد أزمة حقيقية في الإمداد، ستظهر تباعاً في شكل طوابير طويلة أمام المحطات، وشلل في وسائل النقل، وصعوبة في تشغيل الآليات الزراعية والخدمية. هذا النقص سيؤدي حتماً إلى قفزات في أسعار السلع والخدمات، بفعل ارتفاع تكاليف النقل والتوزيع، كما سيفتح الباب أمام نشاط مكثّف للسوق السوداء، التي تقتنص مثل هذه الفرص لفرض أسعار مضاعفة على المواطن المغلوب على أمره.

ولمواجهة هذا الانهيار، هناك حاجة ملحة إلى حلول طارئة وفعّالة. أولى الخطوات الممكنة تتمثل في تنسيق عاجل مع دول صديقة مثل قطر، لإرسال شحنات وقود بديلة في أقرب وقت ممكن. كما أن من الضروري تفعيل خيار المخازن العائمة في عرض البحر، كحل مؤقت لتخزين الوقود، بعيداً عن مناطق الاستهداف المكشوفة. هذه السفن يمكن أن تعمل كمستودعات بديلة، تُضخ منها الإمدادات بشكل منظم، حتى يُعاد بناء البنية التحتية المتضررة. إلى جانب ذلك، لا بدّ من تنظيم عملية التوزيع الداخلية عبر آليات شفافة ومحكمة، تضمن العدالة، وتمنع الاحتكار، وتكسر احتكار السوق السوداء.

أما على المدى الاستراتيجي، فإن ما جرى يفرض مراجعة شاملة لمنظومة الطاقة في السودان. يجب التفكير في توزيع المخازن والمنشآت النفطية على أكثر من مدينة، وعدم الاعتماد على بورتسودان فقط، وتأمينها تقنياً وأمنياً بمستوى يراعي المخاطر الحديثة. كما ينبغي العمل على تحديث مصفاة الخرطوم بما يزيد من إنتاجها المحلي، وتفعيل اتفاقيات تنويع مصادر التزود بالوقود من أسواق جديدة وموثوقة. كذلك يجب الاستثمار في الطاقة المتجددة كخيار يخفف الاعتماد على الوقود السائل في توليد الكهرباء والخدمات العامة.

لقد اتضح أن استهداف منشآت الوقود والطيران والموانئ لم يكن عبثاً، بل هو جزء من منهجية متعمدة لتقويض الاقتصاد، ومحاصرة المواطن السوداني في احتياجاته الأساسية. ومع كل انفجار، يتسع الجرح، وتتعمق الفجوة بين الرغبة في الحياة والقدرة على تحمّلها. لم تعد الحرب مجرد صراع سياسي، بل معركة وجود، تُخاض على موائد الطعام، وفي محطات الوقود، وتذاكر الطيران، وفواتير الكهرباء.

المطلوب اليوم ليس فقط ترميم ما تم تدميره، بل إعادة التفكير في منظومة الحماية الاقتصادية للبلاد. كيف نحمي البنية التحتية؟ كيف نضمن إمدادات الطاقة؟ وكيف نحول دون أن تتحول كل أزمة إلى كارثة تمتد آثارها لسنوات؟ هذه الأسئلة أصبحت ضرورية، ومواجهتها باتت أولوية وطنية لا تحتمل التأجيل.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *