المعلم السوداني في زمن الذكاء الاصطناعي: بديل أم شريك؟
Admin 21 يونيو، 2025 17
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• في زمن تتسارع فيه التقنية وتتغلغل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تفاصيل حياتنا اليومية، تبرز أسئلة مصيرية عن دور الإنسان في المستقبل، وخاصة في المجالات الحيوية مثل التعليم. من بين هذه الأسئلة: هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل المعلمين؟ سؤال يثير القلق لدى البعض، ويثير الحماس لدى آخرين، ولكنه بالتأكيد سؤال يستحق التأمل العميق، لا سيما حين ننظر إليه من واقع بلاد مثل السودان، التي تعاني من أزمات بنيوية في نظامها التعليمي، وتعيش في ظل حرب مستمرة تهدد أساسات الدولة، وتُضاعف من معاناة المعلم والطالب على حدٍّ سواء.
إن هذا التساؤل لا يُطرح في فراغ، بل يجيء في وقت أصبحت فيه التحولات التكنولوجية تسبق الخطط التربوية، وفي زمن أصبحت فيه الآلات قادرة على تقديم ما كان قبل عقود يُعدّ من جوهر الدور البشري في التعليم. فهل نحن على أعتاب ثورة تربوية تُقصي المعلم، أم أننا بحاجة لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتقنية في البيئة التعليمية؟
الذكاء الاصطناعي والتعليم الحديث
الذكاء الاصطناعي لم يعد خيالاً علمياً أو ترفاً تقنياً، بل أصبح واقعاً ملموساً في المدارس والمؤسسات التعليمية في عدد من دول العالم. برامج قادرة على تصحيح الواجبات، منصات تعليمية ذكية تُكيّف المحتوى حسب مستوى الطالب، مساعدون افتراضيون يجيبون عن الأسئلة في أي وقت، وتطبيقات تتابع تقدم الطلاب، وتقدّم تقارير تفصيلية للمعلمين وأولياء الأمور. هذه التقنيات لا تكتفي بتسريع العملية التعليمية، بل تجعلها أكثر تخصيصاً ومرونة.
ومع تطور تقنيات التعلّم الآلي والتفاعل اللغوي، بات من الممكن توفير تجارب تعليمية مخصصة لكل طالب على حدة، مما يزيد من فرص التفاعل الفردي، ويساهم في تقليص معدلات التسرب الدراسي. ويُتوقع أن يتوسع استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم ليشمل تقييم المهارات الإبداعية، وتقديم الدعم النفسي الرقمي، وتحليل احتياجات الطالب سلوكياً ومعرفياً.
مكانة المعلم بين التحديات والتقنية
لكن، هل هذا يعني أن المعلم، الذي ظل لعقود بل لقرون، العمود الفقري للعملية التعليمية، بات زائداً عن الحاجة؟ لا يبدو الأمر بهذه البساطة. فالتعليم ليس فقط عملية نقل معرفة، بل هو تفاعل إنساني عميق، وتشكيل وجداني وسلوكي لا يمكن استنساخه رقمياً بسهولة.
في السودان، حيث تئنُّ المنظومة التعليمية تحت وطأة الحروب المتكررة، والفقر، وانهيار البنية التحتية، يبدو الحديث عن الذكاء الاصطناعي أشبه برفاهية بعيدة المنال. أكثر من ستة ملايين طفل خارج المدارس، آلاف المدارس دمرت أو تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين، ومعلمون قُطعت رواتبهم أو هجّروا قسراً. في هذا السياق، يبرز المعلم كشخصية محورية، ليس فقط في التعليم، بل في حفظ الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي.
التقنية كأداة لا بديل
لكن، ورغم هذه الظروف القاسية، تظل الفرصة سانحة للنظر إلى الذكاء الاصطناعي لا كبديل للمعلم، بل كأداة يمكن توظيفها بحكمة للمساعدة في سد الفجوات. في المناطق التي يصعب فيها الوصول إلى معلمين متخصصين، يمكن للمنصات التعليمية المعززة بالذكاء الاصطناعي أن تتيح محتوى تعليمياً للأطفال واليافعين. في المخيمات ومناطق النزوح، يمكن تصميم تطبيقات خفيفة تعمل بدون اتصال دائم بالإنترنت، لتقديم محتوى تعليمي أساسي. بل يمكن تدريب المعلمين أنفسهم على استخدام هذه الأدوات لتعزيز مهاراتهم وتوسيع نطاق تأثيرهم.
كما يمكن لهذه التقنيات أن تتيح للمعلمين السودانيين في المهجر فرصاً جديدة للتواصل مع طلاب الداخل، من خلال الدروس المسجلة أو البث المباشر، مما يفتح المجال لإنشاء شبكات تعليمية عابرة للحدود، توفر فرصاً تعويضية للتعليم في ظل النزاع.
رمزية المعلم في السياق السوداني
المعلم في السودان ليس مجرد موظف يؤدي واجباً وظيفياً، بل هو رمز اجتماعي وثقافي، وغالباً ما يكون القائد في قريته أو حيّه، والمرشد في وقت الأزمات، والملاذ حين تنهار بقية المؤسسات. الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من تطور، لا يستطيع أن يعوّض هذا الدور الإنساني العميق. فالمعلم هو الذي يدرك أن الطالب غائب ذهنياً وإن حضر جسدياً، وهو من يلاحظ علامات الحزن أو العنف على وجه التلميذ، وهو من يقرر أن يؤجل درس اليوم ليطرح سؤالاً وجودياً حول الوطن والمستقبل.
التكامل بدلاً من التنافر
وفي الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل الواقع الجديد. المعلم الذي لا يواكب أدوات العصر سيجد نفسه مهمشاً، أو على الأقل غير قادر على التواصل مع جيل رقمي يستهلك المحتوى بسرعة، ويقارن بين ما يجده على الإنترنت وما يُلقى عليه في الصف. لذا، فإن مستقبل التعليم في السودان يتطلب من المعلمين ألا يروا في الذكاء الاصطناعي خصماً، بل شريك.
شراكة من نوع جديد، حيث تتكامل المهارات الإنسانية مع القدرات التقنية. الذكاء الاصطناعي يتولى المهمات الروتينية، والمعلم يركز على الحوار، النقد، التحفيز، وتعزيز القيم. المعلم يطرح الأسئلة الوجودية، ويقود النقاشات التي لا يستطيع الروبوت الخوض فيها. الذكاء الاصطناعي قد يشرح قاعدة رياضية، لكن المعلم هو من يربطها بحياة الطالب اليومية، ومعاناته، وأحلامه المؤجلة.
استراتيجية وطنية للتعليم الرقمي
هذه الرؤية التشاركية، تتطلب من الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص الاستثمار في تدريب المعلمين، وتوفير بنية تحتية رقمية ولو في حدها الأدنى، وتطوير محتوى تعليمي محلي يراعي الخصوصية الثقافية واللغوية. لا فائدة من تحميل المحتوى الأجنبي وتقديمه كما هو، بل يجب أن تُعاد صياغته ليتحدث بلغة الطالب السوداني، ويعكس همومه وبيئته.
أكثر من ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دوراً في ردم الفجوة بين العاصمة والأطراف، بين الحضر والريف. فبدلاً من انتظار المعلم ليصل إلى قرية نائية، يمكن تصميم نموذج تعليمي هجين، يدمج بين وجود معلم محلي وتطبيق ذكي يقدم محتوى متدرجاً، ويقترح أنشطة تفاعلية، ويتيح للمعلم نفسه فرصة التعلّم والتطور المستمر.
دور الجامعات والقطاع الأكاديمي
كما يمكن للجامعات السودانية في الداخل والمهجر، أن تتبنى مبادرات تعتمد على الذكاء الاصطناعي في تدريب المعلمين، وتطوير نظم تقييم ذكية، تساعد على تحسين الأداء، وتحقيق الشفافية في النتائج التعليمية. ومن خلال التعاون بين مؤسسات التعليم العالي ووزارات التربية والتعليم، يمكن تطوير استراتيجية وطنية للتعليم الرقمي تكون مرنة، شاملة، ومستجيبة للواقع السوداني.
العدالة التعليمية في العصر الرقمي
وفي هذا السياق، من الضروري ألا يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كرفاهية تكنولوجية، بل كأداة لبناء العدالة التعليمية. فحين يتساوى طفل في جبل مرة مع طفل في الخرطوم في الوصول إلى محتوى تعليمي متكافئ، تبدأ ملامح التغيير الحقيقي. هذه العدالة لا تتحقق بالتقنيات وحدها، بل عبر الرؤية والنية السياسية والمجتمعية لتوفيرها وتوطينها.
كما ينبغي أن تُربط برامج التعليم الذكي بجهود السلام الاجتماعي، وأن تساهم في دعم التعايش بين الثقافات واللغات المختلفة في السودان. فالمدرسة قد تكون أداة للشفاء الجمعي في زمن ما بعد الحرب، والذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون جزءاً من هذا الشفاء إذا صُمم بوعي إنساني وأخلاقي.
نحو تعليم إنساني مدعوم بالذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي ليس شبحاً يهدد المعلمين، ولا عصا سحرية ستحل مشكلات التعليم بضغطة زر. بل هو فرصة، مثل كل تطور تقني، تحمل في طياتها احتمالات عدة: التهميش لمن يرفضها، والتمكين لمن يستثمرها. في السودان، حيث التعليم بات ضرورة للبقاء وليس للترقي فقط، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة نجاة إذا ما تم توظيفه ضمن رؤية شاملة، ترى في المعلم قلب العملية التعليمية، لا عقبة أمام تطورها.
المستقبل لا ينتظر أحداً، لكنه يفتح ذراعيه لمن يستعد له. والمعلم السوداني، بإرثه وتاريخه ومكانته، هو الأقدر على تحويل الذكاء الاصطناعي من تهديد إلى فرصة، ومن بديل محتمل إلى شريك موثوق. وربما يكون هذا التحول هو مفتاح النجاة الحقيقي لمنظومة التعليم السودانية، التي ظلت تُكافح في وجه العواصف لعقود، ولا تزال تملك القدرة على النهوض إن امتلكت الإرادة والوسيلة.
شارك المقال