• يُمسك الفرشاة وكأنه يحفر في الأرض.. الألوان الترابية تندفع من يده كأنها نهر النيل في موسم الفيضان… بنيٌ يغلي، ذهبٌ يشتعل، أزرقٌ يصرخ بصمت. رسم المعتز مختار علي الأمين السودان كما يراه.. ليس كخريطة، بل كجرح وشجاعة.
لم يستخدم الألوان، بل خلطها بالتراب… أحمر من طين الجزيرة، أزرق من حجارة النيل، أسود من دخان حطب الرُحّل. تقنيته كانت بديعة على جناح الألق..
في معارضه، وجوه بلا عيون. لكنك تسمعها تهمس.. رسم الوجوه وكأنها حصون.. بعضها مُنهار، وبعضها يصمد. الألوان هنا كانت موحية.
وعاش معتز كما يرسم، مبكراً كالفجر في الخرطوم… صامتاً كالصبار.. عنيداً كجذع الهجليج.
كان المعتز يقف أمام اللوحة الفارغة وقوف المتأمل في ساحات رحبة. فرشاته كانت بوحه الوحيد… الألوان.. تلك الخصوم العنيدة التي يجب إخضاعها. يضرب باللون البني كأنه يفتح جرحاً قديماً. يلطخ الأصفر كشمس تحرق ظهر راعي غنم في كردفان. الأزرق لا يضعه بل يلقيه كموجة غضب من نهر النيل.
في (ورشته)، حيث يختلط غبار الطين برائحة الزيت، كان معتز يحارب كل يوم. لم يكن يرسم لوحات. كان يحفر في ذاكرة بلد لم يعرف السلام حقاً. الجمال في لوحاته ليس خالصاً فحسب. إنه متعب، عظمه بارز، عيناه تحملان كل غبار الطريق. النخيل ليس شجراً، إنه أشباح ترفرف في حر الظهيرة.
يقول إن الفن الحقيقي يجب أن يؤلم. كان يخلط القهوة، بغبار الطوب. مرة يمزج اللون الأحمر بالملح… هذا دمنا.. مالح مثل دموعنا، ثخين مثل تاريخنا.. لم يكن يخشى الفراغات البيضاء في لوحاته. كان يتركها كأنها صمت بين رصاصتين.
النقاد يتحدثون عن التجريد والرمزية.. لكنه كان يضحك. فهو يرسم ما يراه.. فإذا رأيت رمزاً فهذا نصيبك من الشوف.
كان يشرب الشاي الأسود دون سكر. كان يستمع إلى أصوات السوق القديم أكثر من استماعه لنصائح النقاد… لا يفهم لوحاته إلا قلة.. لأنهم ليسوا جائعين بما يكفي لفهمها… كان يقول… إن لوحاته لم تكن للزينة. كانت ندوباً.. كانت شهادات ميلاد لأشخاص لم يعرفوا الأوراق الثبوتية.
قد يرسم لوحة باللون الأسود.. ولا يسميها.. وعندما يسأل عن معناها، يدير ظهره ويمشي. ويبقي الناس يتساءلون: هل هي حداد؟ هل هي غضب؟ هل هي استسلام؟… ربما تكون كل شيء. ربما لم تكن شيئاً. ربما كان المعتز يعرف أن الفن الحقيقي كالصحراء، يبدو بسيطاً حتى تدخل فيه، ثم تكتشف أنه لا نهاية له، ولا خلاص منه.
لأنه لم يرسم السودان. هو صنع سوداناً جديداً من الرماد والضوء. في عالمٍ يبيع الأوهام، ظلَّت لوحاته كالرمال: صلبة، صادقة، لا تُشرى.
«الفن الحقيقي يُقلع اللحم عن العظم. معتز فعل ذلك بيد عارية.».
في لوحاته، يصنع المعتز مختار من الجمال خطوطاً هندسية صارمة. ليست مجرد أشكال، بل أساطير تتحرك. الذهب ليس لوناً هنا، بل هو صوت الرمال حين تهبّ فوق تاريخ ممتد. الفرشاة كانت سكينه. قطع بها أوهام الواقع، وترك العظام مكشوفة…. عظام الأرض، عظام الناس، عظام الذاكرة.
يقول: كلما لامست فرشاتي سطح اللوحة،
تلاشى هذا العالم من حولي…
كأن روحي تغادر حدود الواقع، وتتجول في أروقة عوالم لا تُرى،