المصور الفوتوغرافي بيشوي روماني: عدستي تحكي قصة ترابط المجتمع السوداني
Admin 4 أكتوبر، 2025 135

حوار : طارق عبدالله علي
• نستضيف اليوم قامة شابة تمثل جيلاً سودانياً يرفض التوقف عن الإنجاز، محولاً التحدي إلى انطلاقة جديدة. إنه «بيشوي روماني أمين حبيب»، الشاب الذي يبلغ من العمر 25 عاماً، والذي يجمع بين التميز الأكاديمي والشغف الفني. بيشوي طالب في الصف الرابع بكلية العلوم الإدارية بجامعة الخرطوم، متخصص في مجال التمويل، وهو أيضاً مصور فوتوغرافي محترف ذو اعتراف دولي، يقيم حالياً نازحاً في القاهرة.
بدأ بيشوي رحلته في التصوير عام 2018، متخذاً من عدسته وثيقة للمشهد السوداني بكل تفاصيله. تخصصه في تصوير الطبيعة، والمعمار، وأحياناً البورتريه، مكّنه من رسم صورة بصرية قوية لبلاده فاقت الحدود الجغرافية. إنجازات بيشوي تتحدث عن حجم موهبته، وقدرته على المنافسة عالمياً. في عام 2020، نشرت إحدى صوره النادرة لغابة السنط على موقع البنك الدولي، ضمن مقال يسلط الضوء على محاربة التصحر في السودان. وفي عام 2021، حصد الفوز في مسابقة السفارة التركية «السودان في صورة»، مؤكداً عمق رؤيته الفوتوغرافية للخرطوم والنيل. كما أظهر بيشوي شغفاً خاصاً بالمعمار، حيث اختارت الجماهير صورته لبرج الفاتح للفوز بـجائزة اختيار الجماهير في مسابقة المعمار غير التقليدي عام 2023. كما كان بين المتسابقين النهائيين في مسابقتين دوليتين مرموقتين، هما City Visions (2024) و Solo Structures (2025). هذه الإنجازات المتتالية تبرز قدرته على دمج الرؤية الفنية مع التوثيق المؤثر.
في هذا الحوار، نتعمق مع المصور الفتوغرافي بيشوي روماني، لنستكشف كيف يوائم بين متطلبات تخصص التمويل والتفوق الفني، ونتحدث عن تفاصيل إبداعاته من خلال عدسته اللماحة.. فإلـى الحـوار:

• ما الذي جذبك لتصوير الطبيعة والمعمار في السودان تحديداً عام 2018، وكيف أثرت بيئة الخرطوم على أسلوبك البصري؟
– منذ صغري كنت أحب جداً الطبيعة، وخصوصاً الأشجار. ربما يرجع السبب إلى أنني وجدت الأشجار حولي دائماً منذ أن وعيت بالدنيا؛ فوالدي ووالدتي كانا دائماً مهتمين بالزراعة. ونشأتي في حي «حلة حمد» بالخرطوم بحري، وقرب الحي من النيل، جعلني ألعب دائماً بين الأشجار. كنت طفلاً انطوائياً نوعاً ما، وكنت ألعب بجمع أوراق شجر النيم ثم فرزها حسب تدرج الألوان من الأخضر إلى الأصفر. أما بالنسبة للتصوير المعماري، فقد نما في داخلي مع مرور الزمن. كنت مندهشاً جداً عندما دخلت جامعة الخرطوم برؤية مكتبة المين وتفاصيل المبنى الذي يعود عمره لأكثر من 100 عام وما زال جميلاً، فتناقشت مع زميل وقلت له: «يا أخي، لماذا لا نبني مثله اليوم؟» وشيئاً فشيئاً بدأت أصور الزوايا المميزة من المبنى التي لا يركز عليها الناس عادة.
بيئة الخرطوم تمتزج فيها الطبيعة بالحياة اليومية، ونحن كمجتمع علاقتنا عميقة بها؛ من بائعات الشاي الباحثات عن ظل الشجر، إلى المظاهرات واستخدام شجر النيم كعلاج للغاز المسيل للدموع. هذا أتاح لي مساحة للتجريب في الظل والضوء تارة، وفي انعكاس الأجسام على سطح النيل تارة أخرى. وببطء، أصبحت عيني أكثر حساسية للتفاصيل الصغيرة، وتعلمت أن أربط الصورة كحكاية بصرية بالناس والمكان.

• حدثنا عن قصة صورة غابة السنط وكيف تم اختيارها للنشر في موقع البنك الدولي لمقال عن محاربة التصحر؟
– فكرة زيارة الغابة نفسها جاءت بالصدفة أثناء محاضرة بجامعة الخرطوم لمادة المسؤولية المجتمعية. ذكر الدكتور سامر عثمان، حفظه الله، بعض المبادرات البيئية، وطلب منا أن نفكر في مشروع لخدمة المجتمع والبيئة. بعد المحاضرة، بحثت على الإنترنت عن مبادرات إصلاح البيئة، وكانت إحداها عن إنقاذ غابة السنط من مخلفات البلاستيك. اكتشفت لاحقاً أن هناك محمية طبيعية مسجلة من الأمم المتحدة في قلب مدينة الخرطوم. كنت منبهراً بطبيعتها؛ بمجرد دخولها تغيّر الجو، وكثافة الأشجار جعلتني أتوه في الغابة أتساءل من أين أتيت وإلى أين أنا ذاهب! فجلست على جذع شجرة لأستريح قليلاً، ووجدت صورة الأشجار خلفي منعكسة كالمرآة على سطح النيل الأبيض مباشرة. أخرجت هاتفي وصورتها بنفس زاوية جلوسي، لأعكس للمشاهد حجم اللقطة ويشعر بالمشهد. أتذكر أن بطارية هاتفي انتهت بعدها، ولم أتمكن من مشاهدة الصورة إلا لاحقاً. بعد فترة قصيرة، صادفني منشور لجمعية REDD، أحد شركاء مجموعة البنك الدولي (World Bank Group)، يفيد بأنهم يبحثون عن صور لدور الغابات في مكافحة التصحر، احتفالاً باليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف في 17 يونيو 2020. وهكذا كان الاشتراك في المسابقة، وتم نشر صورة غابة السنط في مقال عن الطبيعة في السودان بموقع البنك الدولي.

• لماذا يظهر برج الفاتح تحديداً في أكثر من عمل فائز لك، وماذا يعني لك الفوز بـجائزة اختيار الجماهير في مسابقة المعمار غير التقليدي؟
– برج الفاتح يحتل مكانة خاصة عندي لسببين: الأول هو تصميمه المميز؛ فقد كنت مندهشاً جداً كيف يتغير شكل المبنى كلياً حسب زاوية الرؤية، فمرة يظهر كشراع سفينة، ومرة بشكل بيضاوي جعل الناس تطلق عليه برج البيضة، ومن زاوية أخرى يظهر بشكل أقرب للقارب نفسه. هذا ما جعلني أقوم بالدوران حوله لمحاولة تصويره من كل الزوايا الممكنة، لدرجة أن موظف أمن الفندق شعر بالريبة من الشخص الذي يدور حوله. السبب الثاني هو أنني كنت أذهب إليه بشكل شبه أسبوعي وطوال موسم الأعراس كمساعد تصوير، حيث كان العرسان يجرون جلسات تصوير قبل الزفاف. الفوز بـجائزة اختيار الجماهير كان مفاجأة سعيدة بصراحة، نظراً لأن المشاركات كانت دولية، ولم أتوقع أن يصوت الناس من خارج السودان للبرج مقارنة بالمشاركات الأخرى.
• ما رؤيتك لدور المصور في توثيق الجوانب الإيجابية والتراثية للوطن في ظل الظروف الحالية؟
– أعتقد أن دور المصور في السودان دائماً كان يتجاوز مجرد تسجيل اللحظة، هو مسؤولية تجاه الناس في هذه الظروف الصعبة. من المهم إبراز الجوانب الإيجابية التي تعكس ترابط المجتمع. فبالصورة، يمكننا أن ننقل أن السودان يمتلك إرثاً غنياً يستحق أن يروى.
• كيف يتقاطع طالب في تخصص التمويل مع مصور فوتوغرافي محترف؟ هل هناك رابط بين المنطق الإداري والرؤية الإبداعية؟
– هذا يعيدني للدراسة مباشرةً، حيث يقال لنا إن الإدارة علم وفن معاً. الإدارة عموماً، والتمويل تحديداً، يعلِّمان الإنسان التفكير المنطقي والتخطيط، وقراءة الموقف قبل اتخاذ القرار. فكما يجمع المحلل المالي البيانات ويوظفها ليبني قصة يقدمها عن السوق أو الشركة، كذلك المصور يجمع عناصر من الضوء والمكان واللحظة ليحكي قصة بصرية. في النهاية، كلاهما يعتمد على مزيج من الدقة والإحساس.
• أحكِ لنا مدى تأثير وضعك كنازح على استمرارية دراستك في جامعة الخرطوم، وما خططك لإتمام التخصص في التمويل؟
– النزوح كان نقطة صعبة جداً في حياتي عموماً والدراسة خصوصاً. بعد صعوبات، استأنفت الجامعة نشاطها إلكترونياً، لكن ترك البيئة الأكاديمية لم يكن مجرد تغيير مكان، بل كان فقداناً لشعور الاستقرار. وصاحب ذلك صعوبات دراسية وتأقلم على وضع جديد، لكن التجربة قوَّت إصراري على إكمال المشوار إن شاء الله.

• ما أكبر التحديات التي واجهتك في الانتقال إلى القاهرة؟ وهل فتحت لك الإقامة فيها آفاقاً جديدة في التصوير أو المجال الأكاديمي؟
– أكبر تحدٍّ ما زال قائماً هو حالة عدم التأكد. فنحن في وضع مؤقت طوال الوقت، لا نعرف ماذا سنفعل غداً وأين سنكون، وهو وضع يجعلك تشعر أنك تائه. البيئة الجديدة بالضرورة مثلت آفاق تصوير جديدة لثقافة ومكان مختلف، وتحديداً كمصور للطبيعة بالأساس، فقد وجدت طبيعة مختلفة كلياً لأستكشفها. بالنسبة للمجال الأكاديمي، وجودي في القاهرة سهل الوصول للعديد من الامتحانات والمراكز التي لم تكن متوفرة في السودان.
• هل بدأت في توثيق المشهد المعماري والطبيعي في القاهرة، وما هو الاختلاف الجوهري الذي تراه بين مشهدي الخرطوم والقاهرة بعين المصور؟
– نعم بدأت، وشعرت بخصوصية كل مدينة عن الأخرى. الخرطوم بالنسبة لي كمصور كانت تمثل بساطة المشهد وهدوءه. الضوء فيها حاد وصريح، والأماكن غالباً مفتوحة على السماء والنيل، والصور هناك أقرب للطبيعة الصافية. أما القاهرة فهي مدينة مزدحمة وصاخبة، فيها تنوع بصري كبير بين التاريخي والحديث، من أزقة ضيقة وأسواق شعبية إلى عمارة حديثة.

• بصفتك مصوراً للطبيعة والمعمار السوداني، هل تشعر بمسؤولية تجاه حفظ الذاكرة البصرية للخرطوم والمدن السودانية التي تغيّرت ملامحها مؤخراً؟
– إنها مسؤولية كبيرة. كثير من الأماكن التي صورتها فقدت ملامحها بعد الحرب، والتصوير توثيق ومقاومة للنسيان بالنسبة للأجيال القادمة. وهذا دفعني لنشر صور كثيرة كنت أعتبرها لا تستحق النشر سابقاً لغرض التوثيق، وربما كان حكمي عليها قاسياً في الماضي.
• كطالب تمويل، ما الأفكار التي تراودك حول دور الشباب السوداني النازح في إعادة بناء الاقتصاد السوداني مستقبلاً؟
– أعتقد أن الشباب السوداني بعد النزوح بات يحمل رصيداً كبيراً من التجارب التي تكسبه مرونة ورؤية أوسع من خلال الاغتراب والتكيُّف مع بيئات جديدة. النزوح منح الشباب فرصة ليكونوا جسراً بين السودان والعالم، ونقل التجارب الاستثمارية هذه للسودان يمكن أن يكون أساساً لاقتصاد أكثر انفتاحاً واستدامة في المستقبل.

• ما الرسالة التي تود توجيهها من خلال هذا المنبر للشباب السوداني الذي يواجه تحديات مماثلة، سواء في استكمال دراسته أو ممارسة شغفه؟
– الرسالة أولاً تذكير لنفسي ثم للشباب، هي أن هذه الحرب رغم ألمها، هي فرصة لكي يصحو المرء لتحسين نفسه ويقوم بإعادة ترتيب أولوياته. وأيضاً، يجب أن تدرك أننا قد نفقد أشياء كثيرة في لحظة، لكن المعرفة والشغف هما رأس المال الحقيقي الذي لا يستطيع أحد أن يسلبه منك.
شارك الحوار