المشروع الوطني ما بين الترضيات والابتزاز

126
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• في أعقاب الحرب التي جرشت هذه البلاد، أصبح من الواضح والساطع أن معالجة قضية المظالم التاريخية وتوزيع الثروة تتطلب نهجاً جذرياً ومختلفاً عما كان يُمارس في السابق. فلطالما كانت الحلول المطروحة إما (ترضيات عقيمة) من جانب الحكومة، أو (دعاوى ابتزاز) من جانب بعض المناطق والإثنيات. هذه الحلول المجزأة لم تُسهم إلا في تعميق الانقسامات، وإعاقة التنمية الحقيقية، وتأجيج المرارات المتكدسة. لذلك، فإن المرحلة الحالية تتطلب طرح مشروع وطني شامل، يراعي التنوع الجغرافي والثقافي والاجتماعي للسودان، بعيداً عن سياسات التأنين والترضيات التي تُعطى مِنْ مَنْ لا يملك، لمن لا يستحق.
السودان، بتركيبته الاجتماعية المعقدة، وتنوعه الجغرافي والثقافي، يعاني من إرث ثقيل من المظالم التاريخية، التي تراكمت على مدى عقود. هذه المظالم طالت بشكل عام كل المناطق بلا استثناء، عدا العاصمة، حيث عانت كل المناطق من إهمال طويل الأمد في مجالات البنية التحتية، التعليم، والصحة. في المقابل، تم تركيز الاستثمارات والموارد في المنطقة المركزية (الخرطوم)، مما خلق فجوة تنموية واسعة بين المركز والأطراف.
هذه المظالم لم تكن اقتصادية فحسب، بل كانت أيضاً سياسية وثقافية. فكل هذه المناطق والإثنيات والثقافات، لم تحظ بالاعتراف الكافي، أو المشاركة الفاعلة في صنع القرار الوطني، مما أدى إلى تفاقم الشعور بالتهميش. وفي ظل غياب العدالة الاجتماعية، تحولت هذه المظالم إلى صراعات وحروب، في مناطق بعينها، كان لها تأثير مدمر على استقرار البلاد.
في محاولة لمعالجة هذه القضايا، لجأت الحكومات المتعاقبة أحياناً إلى سياسات الترضيات العقيمة، مثل توزيع المناصب أو الموارد بشكل عشوائي، حسب الصُداح، دون وجود خطة استراتيجية واضحة. هذه السياسات، وإن كانت تهدف إلى تهدئة الأوضاع وإسكات الجلبات، إلا أنها فشلت في تحقيق تنمية حقيقية، أو معالجة جذور المشكلة. بل إنها أحياناً زادت من حدة التوترات، حيث تم إعطاء موارد لمناطق دون أخرى دون معايير واضحة، مما خلق شعوراً جديداً بعدم الإنصاف. إلا أن بعض هذه المناطق ارتفعت عقيرتها بلا سلاح. واعتمدت على (فزعات) أبنائها في الخارج بلا عجيج.
من ناحية أخرى، تحولت بعض المطالب التي تُطرح تحت عنوان خادع (تصحيح المظالم التاريخية)، إلى أدوات للابتزاز السياسي. فبدلاً من أن تكون هذه المطالب مدفوعة برغبة حقيقية في تحقيق العدالة، أصبحت في بعض الأحيان وسيلة للضغط على الدولة، من أجل الحصول على مكاسب شخصية أو فئوية، دون النظر إلى المصلحة العامة. هذه الحالة من (الابتزاز المناطقي والإثني)، تعمق من الانقسامات، وتُعيق أي محاولة جادة لبناء مشروع وطني شامل.
بعد أن تضع الحرب أوزارها، يجب أن تختلف المعالجات جذرياً بلا محاباة أو ميل، فالسودان في حاجة إلى مشروع وطني يعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف، ويضع أسساً جديدة للعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. هذا المشروع يجب أن يقوم على مبادئ أساسية عدة:
أولها العدالة في توزيع الثروة، فيجب أن توزع الموارد الوطنية بشكل عادل بين جميع الأقاليم، مع إعطاء الأولوية للمناطق الأكثر تهميشاً بشكل متوازن ومقسط. هذا يتطلب إنشاء آليات شفافة وفعالة، لتحديد احتياجات كل منطقة، وتخصيص الموارد بناءً على معايير موضوعية.
كما يجب كذلك الاستثمار في البنية التحتية، فالمناطق المهمشة باختلافاتها وتنوعها مناطقياً، تحتاج إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية، مثل الطرق، الكهرباء، والمياه النظيفة. هذه الاستثمارات لن تعزز التنمية الاقتصادية فحسب، بل ستساهم أيضاً في تقليل الفجوة بين المركز وباقي المناطق.
وأيضاً يجب العمل على تعزيز المشاركة السياسية، بأن تُمثل جميع الإثنيات والثقافات والمناطق في مؤسسات صنع القرار الوطني. هذا يتطلب إصلاحات سياسية، تضمن مشاركة فاعلة من جميع المناطق في إدارة شؤون البلاد.
كما أن الاهتمام بالتنمية البشرية هو رأس الرمح في هذا الأمر، إذ إن التعليم والصحة يجب أن يكونا في صلب أي مشروع تنموي. بتوفير خدمات تعليمية وصحية ذات جودة مقدرة في جميع أنحاء البلاد، مع التركيز على المناطق التي تعاني من نقص حاد في هذه الخدمات.
ولا يمكن إغفال تعزيز الاقتصاد، بدعم الاقتصادات المحلية في المناطق النائية، من خلال تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتوفير التمويل والتدريب اللازمين لتنميتها. هذا سيساعد على خلق فرص عمل، وتحسين مستويات المعيشة.
البلاد في حاجة إلى هذا المشروع، الذي يعيد تعريف العلاقة بين المركز والمناطق الأخرى، ويضع أسساً جديدة للعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. هذا المشروع يجب أن يكون قائماً على الاعتراف بالتنوع الثقافي والجغرافي للبلاد، وأن يعمل على تصحيح المظالم التاريخية (الحقيقية)، التي عانت منها كل المناطق بلا استثناء. بدلاً من الاستمرار في سياسات الترضيات الخرقاء، التي لا تحقق سوى حلول مؤقتة بلا عائدة على المواطنين.
يجب أن نعمل معاً على بناء مستقبل يعكس تطلعات جميع السودانيين، مستقبل تُوزع فيه الثروة بعدل وسوية، وتُبنى فيه التنمية على أسس متينة، بعيداً عن الاستعطاف والانعطاف، وتراعي احتياجات الجميع (اللازمة). فقط من خلال مشروع وطني شامل، يمكن للسودان أن يتجاوز مظالم الماضي المستفيضة على العموم، ويخطو نحو مستقبل أكثر ثباتاً وإدامة وأدنى إجحافاً.

 

شارك المقال

2 thoughts on “المشروع الوطني ما بين الترضيات والابتزاز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *