المدن في حوار الإنسان والمكان 2-3 

13
مدينة
Picture of د. أسامة خليل

د. أسامة خليل

• والقرآن الكريم يقول دائماً وأبداً أن المدينة والقرية سواءٌ في اللفظ القرآني. فحينما تحدث عن مدينة القدس بعد أن دمَّرها «بختنصر» الذي أباد اليهود في «الشتات الأول»، ومرَّ عليها نبيُّ الله عُزير فوجدها مجرد أطلال لم يلبث أن توقف عندها وهو نبيٌّ. وقد ذكر القرآن ذلك، قائلاً:((أو كالذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها)). وحينما أراد الله عزَّ وجلَّ أن يذكر لنا هذه القصة بما فيها من عظمة الإحياء والإماتة، عظة الخَلْقِ وعظمة الخالق، قال الحق سبحانه وتعالى:((فأماته الله مائة عامٍ ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يومٍ، قال بل لبثتَ مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك)).

       ومدينة القدس والتي كانت حاضرة ملك سليمان والتي بنى فيها الجنُّ من كل غواصٍ وبناءٍ وأقاموا فيها من تماثيل، ومحاريب، وقدور راسيات كالجفان، هذه المدينة بكل عظمتها وصفها القرآن بالقرية. وذلك بمعنى أنَّ القرية في القرآن هي المدينة بعد تداخل الحضارات والثقافات. ولكن تبقى المدينة القرآنية والقرية القرآنية هي أصدق وصفاً وأقوم قيلا، فمثلاً يحدثنا القرآن عن حاضرة البحر والحاضرة عندنا بمعنى العاصمة، ولكن القرآن يقول أنَّها قرية في القصة المشهورة عن القرية التي كانت حاضرة البحر وفيها خالف اليهود أمر ربهم قال تعالى:((وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لايسبتون لاتأتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون))، حيث وصف المدينة هنا بالقرية.      

    وبلاغة القرآن لاتدانيها بلاغة، فكل كلمة فيه موضوعة في مكانها، ويلزمنا أن ندخل في هذا الاستطراد لنبين مكانة اللفظ القرآني واستعماله القرية والمدينة في حديثه عن مكة، فقد وصفها الله سبحانه وتعالى أكـثر من مرة بأنَّها قرية. قال تعالى:((وكأيِّن من قرية هي أشدَّ قوة من قريتك التي أخرجتك)). ولكن لفظ المدينة في القرآن ورد محدوداً مقصوداً به مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم ترِد في القرآن مدينة باسمها المشهور -مثل مكة، فهي مرة مكة، وأخرى بكة وثالثة أم القرى. فنلاحظ أنَّ الله سبحانه وتعالى عندما وصفها بأم القـرى ربط صفة أم القرى بالعقل فقال عزَّ وجلَّ:((لتنذر أم القرى ومَنْ حولها))، ونعلم أنْ مَنْ لاتستخدم إلا للعاقل؛ لأنَّ المقام كان مقام دعوة وإرشاد. ولعل ذكر القرآن للمدن تأكيدٌ بأنَّ الإنسان منذ القِدَمْ أقام المدن وأنشأها، فالقرآن يحدثنا عن مدينة إرم ذات العماد ويصفها بأنَّها لم يُخْلَقْ مثلها في البلاد، ويتحدث –أيضاً- عن الأيكة وأصحابها، وأولئك الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاًً فارهين.  

     وما كان هذا أن يتأتى لعقول قاصرة كما يحدثنا أهل الغرب عن سكان الكهوف إشارة للحياة البدائية للإنسان، فالقرآن يحدثنا أنهم كانوا ينحتون في الجبال بيوتاً فارهين أي أنَّ لهم فنٌ في العمارة مدهش، والزائر لمدائن صالح «ثمود» الذين جابوا الصخر بالواد يقف مشدوهاً أمام العبقرية المعمارية التي قضى عليها كفرها وطغيانها، كما فعل الله تعالى بفرعون وأوتاده «الأهرامات»، وهو حديثٌ عن حضارات سادت ثم بادت. فتلك حضارة التتابعة قوم تُبَّع من أهل حِمْيَرْ الذين أقاموا سد مأرِبْ، ومدينة سبأ التي ورد ذكرها في القرآن بمنتهى الوضوح وكان لهم ملكٌ وحضارة، ولكنهم كانوا يعبدون الشمس من دون الله. وأهل مديَّن -مدينة شعيب- كانوا أهل تجارة، ولكنهم كانوا يخسرون الميزان ولا يزنون بالفسطاط المستقيم، وقد ذكرت في القرآن الكريم أكثر من مرة.

       وهكذا نجد أنَّ الحديث في القرآن الكريم يكون عن القرية التي تعني المدينة والحاضرة التي توصف بالقرية أحياناً، والمدينة باسمها مثل إرم ذات العماد ومدينة المؤتفكة وأوتاد فرعون التي هي الأهرامات. ثم الحديث عن مكة والمدينة بحسبانهما مدن الهداية والعقيدة يضاف إليهما القدس في إسراء النبي صلَّى الله عليه وسلم من مدينة لأخرى -أي من مكة إلى القدس- في قوله تعالى:((سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله)). 

     جاء ذكر القرية مرادفاً للمدينة في القرآن نصاً في قصة الخضر وسيدنا موسى عليهما السلام، وقد ورد أنهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما في قوله تعالى:((فانطلقا حتى أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا)). ومن هذا السياق نعلم أنها مدينةٌ لها بنيانٌ وجدرٌ وسكن، بدليل أن القرآن قال:((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه))، ولكنه وصف حالتها بأنها قرية بها جدرٌ تبنى، وهذه لاتكون إلا في مكان استقرار تنهض عليه حياة كاملة. ولما جاء ذكر الأب الصالح في قوله تعالى:((وأما الجدارُ فكان لغلامين يتيمين في المدينة))، وصفها بالمدينة على سبيل المدح. وأحياناً يأتي التباين في إطلاق مصطلح القرية والمدينة على المنطقة نفسها في هذا السياق إلى اختلاف السلوك الحضاري والقيمي بين المدينة والقرية. فالسياق القرآني يؤكد أنَّها مدينة فيها حوائط تُبنَى وجُدرٌ تُقام، وقلنا أنَّ اللفظ القرآني يطلق القرية على المدينة وأم القرى، والمدينة تحديداً قد وردت في القرآن إشارة إلى مدينة الرسول صلَّى الله عليه وسلم.

     ومن هنا يتضح أن معنى المدينة في القرآن الكريم كان تعبيراً عن المسلك الإنساني الذي يقود الجماعة إلى الحضارة، فحضارة سبأ كانت تقوم على عبادة الشمس وحضارة إرم كانت تقوم على العمارة، وتلك التي تبني في الجبال بيوتاً وتنحتها، ولكن القرآن يحدثنا كل هذا الحديث ليبيِّن لنا صلاح الدنيا وفسادها وأنها إلى زوال، ومع ذلك تبقى القرية والمدينة رمزاً لصيرورة الحياة قصرت أم طالت.

     أما المدن السودانية  فنعلم أنها قامت على الإرث الحضاري الديني، فالمدن القديمة في كرمة ومروي قامت على قيادة حضارة السودان إلى الشمال، وهذا أمر أكده علماء التاريخ ويؤكد أنَّ الحضارة الأصلية الأولى كانت هنا، وقد شملت الوادي شماله وجنوبه، وقد اتصلت بهاتين المدينتين مروي في كبوشية وكرمه في منطقة البركل الآن. بعد ذلك قامت المدن الواحدة تلو الأخرى أثر تدفق الهجرات، ففي الشرق ارتبطت بدولة أكسوم، ثم توالى قيام المدن والحواضر في السودان.

ويذكر البروفيسور عبدالله الطيب في محاضرة ضمن الأبحاث المقدمة للندوة العالمية لدراسات تاريخ الجزيرة العربية في أكتوبر 1983م بجامعة الملك سعود في: بأن هذه المنطقة هي التي شهدت الهجرتين، وهي التي عرفها العرب الأوائل بالحبشة، وقد ذهب الدكتور عبدالله الطيب إلى أن هذه المنطقة كانت مكانا لالتقاء سيدنا موسى بالخضر عليهما السلام، وهذه الصخرة في توتي أتبرا التي يجتمع عليها أهل عطبرا دون أن يعرفوا سببها  أشار أن هذه الصخرة هي التي انسرب منها الحوت عند مجمع البحرين في التقاء نهر عطبرة بنهر النيل. 

 وقد استدل الدكتور عبدالله الطيب على هجرة الصحابة الأوائل إلى السودان بالمدلول اللفظي لكلمة الحبشة، فالحبش عنده اسم يطلق على جنس من السودان امتدت مساكنهم من جنوبي مصر على امتداد ساحل البحر  إلى ما يقابل بلاد اليمن. ويعرج بعد ذلك إلى  أكسوم  والحبشة ويفرق بين المصطلحين قديما وحديثا بما يجعله يطمئن إلى أن هجرة الصحابة  كانت إلى بعض بلاد الحبشة الأكسومية النيلية التي كانت عصابها البحر الأحمر. كما تعقب حركة السفن وعنف الأنواء في البحر الأحمر «بحر القلزم» فرجح أن أول ساحل نزل الصحابة به كان قبالة سواكن على البحر الأحمر.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *