المدرسة التعاونية الإنتاجية الإبداعية الخضراء… من دوكة بدأت الحكاية

82
القضارف
Picture of إعداد: م. معتصم تاج السر

إعداد: م. معتصم تاج السر

عضو مؤسس لحركة السودان الأخضر

• هذا الاسبوع انطلقت مبادرة المدرسة التعاونية الإنتاجية الإبداعية الخضراء – مدرسة الصديق القرآنية بنين – دوكة، ولاية القضارف.

في صباحٍ يعبق بنكهة التراب المبلل بندى الفجر كانت الأرض على موعدٍ مع لحظة ميلاد.

من مدينة دوكة المدينة التي ظلت شامخةً كالسنبلة رغم الريح بدأت الحكاية الخضراء.

دوكة التي حين تهمس بأسمائها الرياح تُنبت الكلمات وتورق الأغاني في صدور الحالمين.

في ذلك الصباح لم يكن مجرد نشاط زراعي في إحدى المدارس بل كانت ضربة البداية لحلمٍ وطني كبير تقوده حركة السودان الأخضر وملحمة مجتمعية تُجسّد ولادة الجيل الأخضر الجديد.

من مدرسة الصديق القرآنية بنين الإبتدائية المتوسطة تلك المدرسة التي خرجت الآلاف منذ العام 1951 أبناء وقامات سودانية مخلصة عملت من اجل البلد وأحبّت الأرض منها إنطلقت مبادرة المدرسة التعاونية الإنتاجية الإبداعية الخضراء وهي ليست مجرد مبادرة زراعية أو نشاط مدرسي بل رؤية متكاملة لتغيير شكل التعليم والإنتاج في السودان.

شارك في هذه الانطلاقة المهيبة التلاميذ بحماسهم الطفولي النقي يحملون شتلات المانجو والجوافة والليمون كأنهم يحملون أبناء المستقبل.

كانوا يغرسون الأشجار بأصابع صغيرة لكنها تحمل عزيمة الجبال.

وحضر أولياء الأمور، بعضهم يبتسم بفخر، وبعضهم يُمسك المعول جنب ابنه، يغرس معه لا الشجرة فحسب، بل قيمة العمل، والإنتاج، والانتماء.

وكان حضور ممثلي حركة السودان الأخضر بولاية القضارف لافتاً ومؤثراً فهم لم يأتوا كضيوف شرف، بل شاركوا في الغرس، والتفاعل، والشرح، ونقلوا للأطفال بلطف المعلّم وبساطة المزارع بأن هذا الغرس هو نواة لسيادة غذائية قادمة وأن هذه الأشجار الصغيرة هي بداية لوطن عظيم مكتفٍ بذاته.

المدرسة ليست جدران فقط… بل مزرعة، ومصنع، ومختبر وأمل

تسعى هذه المبادرة لأن تتحوّل المدارس إلى بيئات إنتاجية تعاونية بحيث لا يكون التعليم معزولاً عن واقع الحياة والعمل بل يندمج مع الأرض والماء والشمس والعرق.

أن يتعلم التلميذ – من داخل مدرسته – كيف يزرع، وكيف ينتج، وكيف يحوّل ما في محيطه إلى مصدر دخل ومعرفة وإستغلال وإستقلال.

ولا تتوقف هذه المبادرة عند حدود المدارس فقط بل تمتد كفكرةٍ شاملة لتغطي كل مؤسسات التعليم في السودان.

فهي مشروعٌ يتجاوز الأسوار ليطال الخلاوي، ومدارس الأساس، والمتوسطة والثانوية، والمعاهد الفنية، والكليات، والجامعات.

كل مؤسسة تعليمية هي أرض خصبة لزرع الإنتاج والوعي الأخضر.

والغاية أن يتحوّل التعليم في السودان إلى مسار مزدوج: معرفيّ ومنتج، فكريّ وعمليّ، أخلاقيّ ومستدام.

دوكة… بداية التغيير الأخضر

لم تكن صدفة أن تبدأ المبادرة من مدينة دوكة، تلك المدينة الزراعية المتجذّرة الواقعة في ولاية القضارف في محلية القلابات الشرقية التي طالما كانت سلة غذاء وساحة كفاح.

دوكة هي اختزال لروح السودان الإنتاجي واحتضانها للمبادرة لم يكن فقط من باب الجغرافيا بل من باب الرمزية حيث تتقاطع الإرادة المجتمعية والموارد الطبيعية والإيمان بالتغيير.

لقد عبّر أهل دوكة عن فرحتهم بالمبادرة بطريقة تلقائية وعميقة؛

نساء أعددن الشاي والماء للمشاركين، شباب ساعدوا في تجهيز الأرض، وشيوخ جلسوا يراقبون ويباركون.

ولأول مرة، شعر التلاميذ أن المدرسة ليست فقط للكتب، بل يمكن أن تكون مشروعاً للحياة.

حركة السودان الأخضر… حين يصبح الحلم نمط حياة

ليست حركة السودان الأخضر مشروعاً مؤقتاً أو مبادرة عابرة إنها حالة وجدانية عميقة تنمو في القلوب كما تنمو الأشجار في التربة العطشى.

هي حركة حياة تُولد في كل مكان ينبت فيه الأمل وتتمدّد حيثما تنبض الأرض بنداءات التغيير.

رؤيتها ليست شعارات تُرفع بل موسيقى خفية تعزف على وتر الوطن لحنها هادئ لكنه عميق يُحاكي نسيم الحقول وحرارة الأيدي العاملة ودمعة الفقير حين تضيء عيناه ببريق الإنتاج.

هي حركة تؤمن أن التغيير الحقيقي لا يأتي بصخب السياسة ولا بلغة الميادين وحدها بل بغرس شجرة وبناء مدرسة، وتوزيع بذرة وتنظيف شارع وتعليم طفل كيف يصنع طعامه بيده.

وأن الوطن لا يُبنى فقط بالقوانين والخطب بل بـحُبّ الأرض وإحياء القرى وتحويل كل بيت إلى مشروع صغير وكل مدرسة إلى مصنع إنتاج.

إنّ ما يجعل هذه الحركة مختلفة أنها تتبنى شعار عملي وحقيقي وهو « ما يخصني لن يكون بدوني» وهي معاني عميقة لأن سيد القرار وسيد نفسه هو هذا الشعب الابي.

وان الحركو لا تتحدث فقط عن الزراعة بل عن إعادة تعريف الحياة.

أن نأكل من أرضنا ونلبس مما ننتج ونفكر كما نزرع وأن نصحو كل صباح وفي أعيننا خريطة وطن أخضر لا يشبه الأمس.

رؤيتها لما تسميه «بالتغيير الإيجابي الإنسيابي الإبداعي الأخضر» ليست مجرد فلسفة.

بل دعوة لأن ينساب التغيير كالماء هادئاً عميقاً لا يُرى في لحظته لكنه يصنع الفرق على المدى البعيد.

المدارس تغرس، والوطن ينمو

في ختام يوم الانطلاقة كانت الأرض قد احتضنت عشرات الشتلات والقلوب احتضنت فكرة.

فكرة أن السودان يمكن أن يُشفى من جراحه لا بالبكاء عليها بل بمدّ اليد إلى التربة وبغرس ما نستطيع.

وأنتهى يوم الملحمة في دوكه ولكنه بدأ في مدينة أخرى وبأيادي أخرى لكن كلها قلوب تنبض بنيض واحد وتؤمن بأن السودان قادم وأنه لابد من تحقيق شعار ثورة ديسمبر المجيدة « سوا ينقدر»

سوف تنمو الاشجار بعظمة هذا الشعب والطلاب سوف يمرّون بجوارها كل صباح يراقبون نموّها ويكبرون معها يروونها بماء الصبر ويحلمون معها بسودان أخضر يشبه أغنياتهم الصباحية ودفاترهم الممتلئة بأحلامهم.

ولأن التغيير لا يصنعه الكبار وحدهم فقد جعلت المبادرة من التلاميذ والطلاب ركيزة أساسية في هذا الحلم الأخضر.

اختارت أن تبدأ من قلوبهم الصغيرة ومن أيديهم الطرية التي لا تزال تتشكل على هيئة الأمل.

وقد تبنّت المبادرة تصوراً رائعًا بأن يرعى مجموعة من التلاميذ شجرة واحدة يغرسونها بأنفسهم، ويتابعون نموها ويطلقون عليها اسم من يحبون: أم، أو أب، أو معلم، أو صديق.

هكذا لا تكبر الشجرة وحدها بل يكبر معها الحُب والانتماء وتتشكل بين التلاميذ رابطة وجدانية عميقة تُعمّق الإحساس بالمسؤولية، وتُكرّس لمبدأ المشاركة والعمل الجماعي الذي تنادي به حركة السودان الأخضر في كل برامجها.

هو تجسيد حي لشعار ثورة ديسمبر المجيدة:

«سوا بنقدر»،

لكن هذه المرة بلغة الأشجار وتحت ظلال الحُلم الأخضر.

ومن دوكة، بدأت الحكاية…

وستمتد جذورها في كل مدرسة وكل خلوة، وكل جامعة وكل بيت إلى أن يعود السودان – أرضاً وشعباً – كما يجب أن يكون:

أخضراً ومنتجاً،حراً وعزيزًا. 

لأن الحياة حين تُروى بحب الوطن، تُزهِر.

الوعد والمُنى

وها نحن نغرس اليوم شتلة ونفتح في قلب الوطن نافذة ضوء ونعاهد الأرض والتاريخ أننا لن نتراجع.

فهذا الحلم الأخضر الذي بدأ بخُطى صغيرة في دوكة سيظل يكبر معنا ويصير ظلاً لكل طفلٍ سوداني يحمل كراساته وبذوره في ذات اليد.

الوعد… 

أن نمضي معًا في درب الإنتاج والتعليم والإبداع لا نميل ولا نمل حتى يصبح السودان كما نراه في قلوبنا: أخضر، مكتفٍ، حُر، سعيد.

والمُنى… 

أن يأتي الغد وفي كل مدرسة شجرة وفي كل كلية حقل وفي كل قرية مصنع وفي كل قلب إيمان بأن هذا الوطن يستحق ونحن نستطيع.

فامضِ يا حلمنا

فكلّ الأرض لك حديقة

وكلّ السودانيين لك حُرّاس

وكلّ غدٍ… 

موعدٌ مع السودان الأخضر.

سوا بقدر.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *