

د. محمد أحمد محجوب عثمان
أستاذ القانون العام المُشارك
• عُرض ميثاق روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية أمام الجمعية العامة للأمم المُتحدة بتاريخ 17يوليو 1998م، ودخل حيز النفاذ وبدأت المحكمة عملها في الأول من يوليو عام 2002م وفقاً لمنطوق المادة (126) منه، والتي قضت بسريانه في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين لإيداع الصك الستين للتصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة.
المحكمة الجنائية الدولية واحدة من آليات القانون الدولي الإنساني، ومع ظهورها المُتأخر جداً مقارنة مع بروز أول اتفاقية دولية لذلك القانون في العام 1864م، إلا أننا نجد ظهور ثمة محاولات جادة لإيجاد آلية قضائية تفصل في نزاعات وتجاوزات القانون الدولي الإنساني، لذا فقد رأينا وبعد مرور ثلاثة وعشرون عاماً على نشأة تلك المحكمة ضرورة الوقوف على تلك المسيرة والتطرق لإنجازاتها واخفاقاتها مع التطرق للمحاولات والتجارب التي سبقتها، وحتى لا يمل القارئ الكريم سيتم التناول في سلسلة من الموضوعات.
تناولنا في الأجزاء الثلاثة الأولى فكرة إنشاء آلية قضائية دولية منذ فترة ما قبل الحربين العالميتين واثناْهما وبعدهما، وتوقفنا عند ميثاق المحكمة الجنائية الدولي من حيث التحضير له وصياغته وأهم ما جاء فيه، في هذه الجزئية سنتناول بإذن الله طُرق تقديم الدعاوى أمام المحكمة، وعلاقة المحكمة بمجلس الأمن، وموقف الدول من المحكمة والدعاوي التي نظرتها أو تنظرها المحكمة، لنعكس من خلاله المردود القيمي للمحكمة خلال مسيرتها التي تجاوزت عقدين من الزمان والوقوف على دورها في محاكمة مُرتكبي الجرائم الأشد خطورة على المجتمع الدولي.
تقديم الدعاوى للمحكمة:
تقدم الدعاوى أمام المحكمة عبر ثلاث طرق:
بواسطة دولة طرف.
الإحالة من مجلس الأمن.
بواسطة المدعي العام.
أولاً تقديم الدعوى بواسطة دولة طرف:
وهو الوضع الطبيعي الذي يتوافق مع مبادئ القانون الدولي وقواعد قانون فينا للمعاهدات وحرية التعاقد للدول الأطراف التي صادقت أو انضمت لاتفاق روما الأساسي وحرية الاختيار للدول غير الأطراف فيه، نصت المادة (14) من الميثاق علي حق الدول الأطراف في الإحالة والتي ورد فيها:
1-يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم.
2-تحدد الحالة، قدر المستطاع، الظروف ذات الصلة وتكون مشفوعة بما هو في متناول الدولة المحيلة من مستندات مؤيدة.
ثانياً: الإحالة من مجلس الأمن:
وهو ما نصت عليه الفقرة (ب) المادة (13) من ميثاق روما الأساسي والتي تنص على (إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت)
يُلاحظ أن النص قد منح مجلس الأمن حق التصرف منفرداً بالإحالة للمدعي العام للمحكمة متى ما اُرتكبت جريمة أو أكثر من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، عند استقراء النص مع سلطات مجلس الأمن الواردة في ميثاق الأمم المتحدة تكمن الخطورة في أن مجلس الأمن هو من ينفرد في تقرير ما إذا كانت الحالة تؤثر في الأمن والسلم الدولي أو الإقليمي من عدمه، وهو من يقرر اتخاذ التدابير القسرية بموجب الفصل السابع من الميثاق، والأخطر من ذلك السلطة الممنوحة للدول الخمس دائمة العضوية في استخدام حق الاعتراض على القرارات (حق الفيتو)، وقد استعملته الولايات المتحدة الأمريكية عشرات المرات لإبطال قرارات دولية ضد حق إسرائيل بشأن جرائمها في حق الشعب الفلسطيني، وهو ما ظل يُشكل حاجز صد أمام المحكمة الجائية الدولية وأجهزتها.
من أبرز حالات إحالة ملف أو قضية للمحكمة من مجلس الأمن، إحالة ملف دارفور بموجب قرار مجلس الأمن رقم (1593)، الذي تم تبنيه في 31 مارس 2005م، بعد تلقي تقرير من لجنة التحقيق الدولية بشأن دارفور، أحال المجلس الوضع في إقليم دارفور بالسودان إلى المحكمة الجنائية الدولية وطالب السودان بالتعاون بشكل كاملا مع المحكمة، وفي عام 2007م قدم مدعي المحكمة تقريره للمحكمة مُطالباً بتوقيف عدداً من المتهمين، وفي العام 2009م أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً بالقبض على عدد من المسؤولين السودانيين أبرزهم الرئيس السوداني السابق / عمر حسن أحمد البشير.

العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن:
من خلال نصوص ميثاق روما نُلاحظ أن علاقة مجلس الأمن مع المحكمة الجنائية الدولية تظهر في ثلاث صور:
الصورة الأولى: يحيل المجلس الدعوي أو الحالة أو الملف للمحكمة، شأنه في ذلك شأن الدول الأطراف في ميثاق روما، وبعدها تباشر أجهزة المحكمة سلطاتها واختصاصاتها من خلال التحري والتحقيق، والإحالة للدائرة التمهيدية للتأكد من سلامة الإجراءات واختصاص المحكمة من عدمه، ثم مواصلة الإجراءات أو القرار بعدم الاختصاص.
الصورة الثانية: للمحكمة أن تطلب من المجلس تنفيذ بعض قراراتها أو مذكرات الاعتقال والايقاف وغيرها وهنا يظهر المجلس كأداة تنفيذية للمحكمة تأتمر بأمر المحكمة، شأنه في ذلك شأن أجهزة انفاذ القانون المُختصة بتنفيذ قرارات المحاكم.
الصورة الثالثة: للمجلس حق اصدار قراراً بإرجاء التحقيق أو المقاضاة بموجب المادة (16) من الميثاق لمدة 12 شهراً قابلة للتجديد، ولم يحدد الميثاق الأسباب التي يستند عليها المجلس ولم يضع سقفاً مُحدداً لعدد مرات التجديد، ولم تلزم المجلس بأن يكون قراراه مسبباً، خطورة هذا النص أنه جعل من مجلس الأمن سلطة فوق سلطتي المحكمة والمدعي العام، ومن المعلوم أن قرارات مجلس الأمن قرارات سياسية وليست قانونية، لذا فإنه في تقديرنا أن هذا النص يُشكل خرقاً واضحاً لمبدأ سيادة القانون ويدعم فكرة الإفلات من العقاب ويهزم فكرة عدم الأخذ بمبدأ الحصانة الذى قامت عليه المحكمة.
ثالثاً: الإحالة من المدعي العام للمحكمة:
المادة 15من ميثاق المحكمة منحت المدعي العام حق اجراء تحقيق من تلقاء نفسه للتحقق من أية معلومات وردت اليه ومتى ما رأي أن الأمر يشير لارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يطلب من الدائرة التمهيدية لمنحه الإذن بإجراء التحقيق.
أجهزة المحكمة:
تتألف المحكمة من 18 قاضٍ يشكلون هيئاتها الرئيسة (هيئة الرئاسة التي تتألف من رئيس ونائبين والشعب التي تتكون من الشعبة التمهيدية والشعبة الابتدائية وشعبة الاستئناف) بالإضافة لمكتب المدعي العام وقلم المحكمة الذين يتم اختيارهم خارج القضاة.
يختار القضاة من بين الأشخاص الذين يتحلون بالأخلاق الرفيعة والحياد والنزاهة وتتوافر فيهم المؤهلات المطلوبة في دولة كل منهم للتعيين في أعلى المناصب القضائية وقد نصت الفقرة ب من المادة 36 من ميثاق المحكمة على عدة شروط لاختيار القضاة أهمها:
الكفاءة في مجال القانون الجنائي وقانون الإجراءات الجنائية مع الخبرة المناسبة في مجال العمل في القضاء أو النيابة أو المحاماة أو أية صفة أخري مشابهة.
الكفاءة والخبرة في القانون الدولي خاصةً في مجال القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان.
المعرفة التامة والطلاقة بلغة على الأقل من لغات عمل المحكمة.
يتم توزيع القضاة على الشُعب الثلاث الآتية:
شعبة الاستئناف وتتألف من الرئيس وأربعة قضاة، ودائرة الاستئناف وتتألف من جميع قضاة الشعبة.
الشعبة الابتدائية وتتألف من عدد لا يقلّ عن ستة قضاة، الدائرة الابتدائية وتتألف من ثلاثة قضاة من قضاة الشعبة.
الشعبة التمهيدية وتتألف من عدد لا يقلّ عن ستة قضاة؛ وتتحدّد تركيبة الدائرة التمهيدية وفقًا للقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات.
مكتب المدعي العام:
يعتبر مكتب المدعية العام مسؤولًا عن تلقى الإحالات وأية معلومات موثقة عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، وذلك لدراستها ولغرض الاضطلاع بمهام التحقيق والمقاضاة أمام المحكمة.
يتمّ انتخاب المدعي العام ممن تتوفر فيهم السمعة الحسنة والاهتمام بحقوق الانسان لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد من خلال أي أغلبية مطلقة لأعضاء جمعية الدول الأعضاء. ويمكن أن يساعده نائب أو أكثر للمدعية العامة يتمّ انتخابهم بنفس الطريقة من قائمة مرشحين يقدمها المدعي العام.
يكون المدعي العام والنائب أو نوابه مستقلين استقلالًا تامًّا ويجب أن يكونوا من جنسيات مختلفة. ويجب أن يكون من شخصيات ذات مستويات أخلاقية عالية، وكفاءة عالية، ومن ذوي الخبرة في القضايا الجنائية ولا يجوز أن يرتبطوا بأية وظيفة مهنية أخرى أثناء ممارسة وظيفة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أو نائبه.
بإمكان المدعي العام ترشيح الموظفين الضروريين لعمله مثل المستشارين أو المحققين.
للمدعي العام البدء بتحقيق بمبادرة منه على أساس المعلومات التي يتلقاها من مصادر متنوعة، بشأن جرائم ضمن سلطة المحكمة. وقد “يجوز له التماس معلومات إضافية من الدول، أو أجهزة الأمم المتحدة، أو المنظمات الحكومية الدولية أو غير الحكومية، أو أية مصادر أخرى موثوق بها يراها ملائمة. ويجوز له تلقي الشهادة التحريرية أو الشفوية.
قلم المحكمة:
يتولى قلم المحكمة مسؤولية الجوانب غير القضائية لإدارة المحكمة وتزويدها بالخدمات. ويتمّ انتخاب المسجل بالأغلبية المطلقة للقضاة لمدة خمس سنوات، قابلة لإعادة الانتخاب لمرة واحدة. ويجوز أن يكون له نائب مسجل عند الحاجة، والذي يجري انتخابه بنفس الطريقة. ويمارس المسجل وظائفه بموجب سلطة رئيس المحكمة.
العقوبات التي تُصدرها المحكمة:
للمحكمة أن توقع أياً من العقوبات الآتية:
السجن المؤقت لمدة تصل إلى ثلاثين سنة.
بالسجن المؤبد.
الغرامة والمصادرة والتعويض.
لا تملك المحكمة سجوناً، وتنفذ عقوبة السجن في دولة عضو تختارها المحكمة من قائمة الدول التي أبدت استعدادها لقبول الأشخاص المحكوم عليهم وفقاً للمادة (103) من النظام الأساسي، وتتولى المحكمة الجنائية الدولية الإشراف على تنفيذ عقوبات السجن، وفقاً لنظم وظروف السجن في الدولة التي تتولى التنفيذ.
الدعاوي التي نظرتها أو تنظر فيها المحكمة:
دخل نظام روما الأساسي حيز التنفيذ منذ يوليو 2002م وهو بداية انطلاق عمل المحكمة الجنائية الدولية، ومنذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا يلاحظ أن المحكمة الجنائية الدولية تنظر في أربع قضايا اشتركت جميعها في أنها نتجت من نزاعات مسلحة داخلية وأن جميع أطرافها أشخاصاً ينتمون لدول أفريقية على النحو التالي:
يوغندا: بدأ النزاع المُسلح الداخلي في يوغندا في العام 1987م بتأسيس ما يسمى بجيش الرب بقيادة (جوزيف كوني) والذي سعى لتغيير الحكم في البلاد والاستيلاء على السلطة وإقامة دولة مسيحية، أدى النزاع والذي استمر لعشرات السنين لقتل عشرات الآلاف من الأشخاص والتجنيد القسري للشباب والأطفال. في العام 2003م أحالت الحكومة اليوغندية قضية جيش الرب للمحكمة الجنائية الدولية مطالبة بالتحقيق في جرائم القتل والاختطاف والتجنيد القسري وغيره من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. في العام 2005م أصدرت المحكمة أوامر بالقبض على خمسة من زعماء الميليشيات المسماة بجيش الرب للمقاومة، الأشخاص المطلوبون من المحكمة الجنائية الدولية -بمن فيهم قائد جيش الرب للمقاومة، جوزيف كوني-لم يتم إلقاء القبض عليه حتى الآن. وتوفي أحدهم في القتال مع جيش أوغندا، وجهت المحكمة اتهامات لبعض القادة وادانتهم بارتكاب أكثر من (60) تهمة تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
جمهورية الكونغو الديمقراطية: بدأ النزاع المُسلح في الكنغو الديمقراطية في العام 1996م بدخول قوات من رواندا ويوغندا لدعم الجماعات المتمردة هناك ثم أعقب ذلك دخول عدد من الدول لدعم تلك الجماعات، أسباب النزاع مرتبطة بالموارد والإثنيات اللُغوية والمناطقية، أدى النزاع لمقتل مئات الآلاف من الأشخاص. تم إحالة نزاع الكنغو للمحكمة الجنائية الدولية أواخر عام 2004م، قبلت المحكمة الإحالة وأحالت الأمر للتحقيق. وٍمع وجود توماس لوبانغا في لاهاي (زعيم ميليشيا اتحاد الوطنيين الكونغوليتين وميليشيا الهيما)، في مارس 2007م بدأت غرفة محاكمته في القضية ضده بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بما فيها تجنيد الأطفال واستخدامهم كجنود، وأدانته المحكمة عام 2012م وحكمت عليه بالسجن (30 عاماً) ثم خففت الحكم إلى (14) عاماً بسب تعاونه مع المحكمة.
جمهورية إفريقيا الوسطى: أحالت أفريقيا الوسطى دعواها للمحكمة الجنائية الدولية عام 2014م، وفتحت المحكمة مباشرة إجراءات التحقيق، تم توجيه تهم لعدد من القادة الميدانيين والمسؤولين الحكوميين بتهم تتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وما زالت المحكمة تباشر إجراءات التقاضي في مواجهة بعض قادة مليشيا سيكيا المتمردة.
دارفور، السودان: بدأ النزاع المسلح في دارفور في العام 2003م عندما شنت جماعات متمردة هجوماً على مناطق متعددة في دارفور بدعوى التهميش الاقتصادي وتجاهل الحكومة للإقليم وتنمية الخدمات فيه، من جانبها شنت الحكومة السودانية وقتها هجوماً على تلك الحركات مستخدمة القوات الحكومية ومليشيات الجنجويد المناوئة للحركات التي تمردت الشيء الذي حول النزاع لنزاع قبلي اثني كانت نتائجه كارثية تمثلت في حالات القتل والاغتصاب والنزوح والتهجير القسري وارتكاب فظائع ترقى لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. في فبراير من عام 2007 قدّم المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية بيانات وأدلة إلى الدائرة التمهيدية للمحكمة تتعلق بالوضع في دارفور. وفي مايو من نفس العام صدرت أوامر بالقبض على قائد ميليشيا الجنجويد، وعدداً من المسؤولين الرسميين السودانيين وفي مارس 2009م قدّم المدعي العام السابق مذكرة لتوقيف الرئيس السوداني السابق ومجموعة من القادة السابقين. وفي نوفمبر 2009م، قام المدعي العام بطلب للحصول على ثلاث مذكرات توقيف في حق قادة جماعات المتمردين لاتهامهم بارتكاب جرائم حرب ارتكبت ضد قوات الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام في دارفور.
يلاحظ تسارع الخطوات في ملف السودان أمام المحكمة الجنائية الدولية على الرغم من أن السودان لم يصادق ولم ينضم لميثاق المحكمة، حيث كانت البداية قرار مجلس الأمن رقم 1593 الصادر في 29 ديسمبر 2007م والذي قضى بإحالة ملف دارفور للمحكمة الدولية كما أن الملاحظ أن طلبات المدعي العام ومذكراته شملت مسؤولين حكوميين علي رأسهم رئيس دولة علي سدة الحكم.
أعقب اتهام الرئيس السوداني وبعض المسؤولين الحكوميون لوائح اتهام للرئيس الليبي السابق معمر القذافي، والرئيس الكيني أوهورو كينياتا ونائبه ويليام روتو في عام 2011م بشأن العنف العرقي الذي أعقب الانتخابات فيما بين 2007-2008م، استناداً إلى إحالات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلا أن المحكمة الجنائية قد اسقطت التهم الموجهة إلى كينياتا في ديسمبر 2014م، وضد نائبه روتو في أبريل 2016م.
مواقف المحكمة المتكررة تجاه الدول الأفريقية وضع عدة تساؤلات أمام العديد من الكيانات الدولية والدول مجتمعة أو متفرقة كان نتاجها مواقفاً من تلك الكيانات والدول نذكر منها:
في مايو 2013م عقد الاتحاد الإفريقي قمة طارئة أكد خلالها تضامنه مع الرئيسين (البشير وكينياتا) كما ناقشت قمة الاتحاد بأديس أبابا في يناير2016م مقترحاً قدمته كينيا للانسحاب الجماعي للدول الإفريقية من المحكمة. وأقرت قمة للاتحاد في رواندا في يونيو 2016م بتشكيل لجنة وزارية برئاسة إثيوبيا لبحث الانسحاب الإفريقي من المحكمة.
في فبراير أيد الاتحاد الأفريقي الانسحاب بشكل جماعي من المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن القرار غير ملزم، إذ تعارض نيجيريا والسنغال قرار الانسحاب.
كان لبوروندي السبق في انتقاد المحكمة الجنائية الدولية والسعي لاتخاذ خطوات إيجابية في ذلك فقد اتخذ برلمانها قراراً بالانسحاب من المحكمة. وصادق عليه رئيسها. وكان دافعها الأساسي بسبب تصويت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على قرار يعتزم إرسال لجنة دولية إلى بوروندي، للتحقيق بشأن انتهاكات حقوق الإنسان خلال الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ إبريل 2015م، على خلفية ترشح الرئيس لولاية ثالثة بما يخالف الدستور. وهنا اعتبر وزير العدل البوروندي أن المحكمة أصبحت وسيلة من وسائل الضغط والابتزاز التي يستخدمها المجتمع الدولي في مواجهة الدول النامية.
اعتبرت الحكومات المؤيدة للانسحاب أن تلك المحكمة الجنائية الدولية لم تعد آلية قضائية انما أصبحت أداة استعمارية جديدة يتم استخدامها ضد إفريقيا.
نادت جنوب أفريقيا عدة مرات بالانسحاب من المحكمة غير أن ثمة تراجع منه قد لاح في الافق. كما أن المحكمة العليا في جنوب إفريقيا قد أصرت قراراً في فبراير 2017 اعتبرت فيه انسحاب الدولة من المحكمة يتعارض مع دستور البلاد ومبادئه ويعد انتهاكًا للإجراءات المعتمدة حيث إن البرلمان بوصفه صاحب الكلمة العليا لم يستشار في أمر الانسحاب. وقد أمرت المحكمة العليا الرئاسة بسحب قرارها. الشيء الذي دفع حكومة جنوب إفريقيا لتغيير موقفها وابلاغ السكرتير العام للأمم المتحدة بأنها لم تعد تنوى الانسحاب.
العديد من الدول الأفريقية قد وجهت انتقاداناً للمحكمة موضحةً بأن تسعة من التحقيقات التي فتحتها المحكمة من أصل عشرة يجري العمل عليها، تخص بلدان أفريقية لذا فان العديد من الدول الأفريقية قد رفضت صراحةً أو ضمناً التعامل والتعاون مع المحكمة. وقد دعا الاتحاد الأفريقي مجلس الأمن الدولي إلى استخدام سلطاته بموجب المادة 16 من الميثاق وتأجيل الدعوى ضد الرئيس السوداني لأنها قد تعرقل جهود عملية السلام والمصالحة في السوداني الذي يعاني من مشاكل واضطرابات قد تؤثر على المحيط الأفريقي، غير أن اقتراح الاتحاد قوبل بالرفض من قبل المحكمة.
رفضت أفريقيا الوسطى التعاون رسميا مع المحكمة الجنائية الدولية عقب خطاب بعث به المدعى العام للمحكمة إلى رئيس أفريقيا الوسطى يطالب فيه بالمساعدة للقبض على مسئولين سودانيين. وقد تم ذلك الرفض في اجتماع طارئ عقده الرئيس الأسبق بحضور وزراء للدفاع، والداخلية، والخارجية، ووزير الطيران المدني، ورئيس هيئة الأركان، حيث أجمع هؤلاء على عدم تنفيذ توجيهات المحكمة.
لم يقتصر الهجوم على المحكمة الجنائية الدولية على الدول الأفريقية فحسب وإنما امتد لدول اخرى عربية واوربية وغيرها، نأخذ منها على سبيل المثال انتقادات الولايات المتحدة الأمريكية للمحكمة التي وصلت في مراحلها لحد السجال تارة والتهديد تارة اخري على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية ضمن الدول السبع التي لم توقع على ميثاق المحكمة.
اتخذت في العام 2018م الولايات المتحدة الأمريكية موقفاً صارماً وغريباً تجاه المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، مهددة إياها بفرض عقوبات على قضاتها إذا شرعوا في التحقيق في مزاعم عن ارتكاب أمريكيين جرائم حرب في أفغانستان أو في الأنشطة الامريكية الاسرائيلية او ضد أيٍ من حلفائها مبينةً أن مثل هذا التحقيق سيدفع أمريكا بدراسة منع قضاة ومدعي المحكمة من دخول الولايات المتحدة وفرض عقوبات على أي أموال لديهم في النظام المالي الأمريكي وملاحقتهم أمام نظام المحاكم الأمريكي. من جانبها ردت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي على التهديدات التي أطلقها مستشار الأمن القومي الأمريكي وقائلةً بانها ستواصل عملها دون خوف، مشددةً على أن المبدأ الذي يقودها هو سلطة القانون، وأضافت بأن أكثر من(120) دولة تدعم المحكمة كمؤسسة قضائية مستقلة وأنها ستستمر بأدائها لعملها وفقا للمبادئ الأساسية والموضوعية.
في تقديرنا أن في تهديد الولايات المتحدة الأمريكية للمحكمة على الرغم من أنها لم توقع على الميثاق ورد المحكمة عليها يمثل ظاهرةً خطيرةً تضرب مفهوم العدالة في مقتل وتنتقص من المكانة السامية للقضاء وتظهر المحكمة وكأنها دولة نامية في مواجهة دولة كبري.
الناظر في مسيرة المحكمة الجنائية الدولية يلاحظ ضعفها وعدم قدرتها في القيام بدورها واتخاذ إجراءات قانونية وقضائية في مواجهة انتهاكات القانون الدولي الإنساني الواضحة وذلك بسبب الخلل في التشريع في ميثاق المحكمة بالأخص فيما يتعلق بسلطة مجلس الأمن في إحالة الدعاوي للمحكمة وسلطته اللا محدودة في وقف إجراءات المحاكمة دون مسوغ أو مبرر قانوني خاصة إذا ما ربطنا ذلك بسلطة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وسلطاتها في اجهاض القرارات الدولية عبر استخدام حق النقض.
ما يجسد ويؤكد انتقائية المحكمة الجنائية في تطبيق العدالة على بعض الانتهاكات وصرف النظر عن الانتهاكات الأخرى العدد الضئيل في الدعاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية وحصر نطاقها على الدول الأفريقية بعضها عبر تقديم الدعاوي بواسطة الدول وبعضها عبر الإحالة من مجلس الأمن على الرغم من ازدياد حالات النزاعات المُسلحة الدولية والداخلية بعد دخول المحكمة حيز النفاذ، نأخذ منها (كأمثلة) النزاعات الآتية:
حرب أفغانستان التي اندلعت في العام 2001م واستمرت زهاء العقدين من الزمان.
حرب جنوب السودان والتي اندلعت منذ العام 1955م واستمرت لحوالي نصف قرن.
حرب العراق التي اندلعت عام 2003م.
الحرب في الصومال.
حرب سوريا التي اندلعت منذ العام 2011م.
حرب اليمن منذ العام 2015م حتى الان.
النزاع في ليبيا منذ العام 2018م حتى الان.
حرب فلسطين وقطاع غزة التي استمرت لأكثر من نصف قرن.
حرب روسيا أوكرانيا منذ العام 2014م واشتداد ضراوتها عام 2022م حتى الان.
حرب إسرائيل إيران العام الحالي.
مما تقدم فإننا نرى أن المحكمة الجنائية الدولية كانت غاية وأمل الدول والشعوب يؤكد ذلك الفترة الزمنية بين عرض الميثاق على الجمعية العامة للأمم المتحدة وتاريخ سريانه بعد مُصادقة أكثر من (60) دولة عليه خلال فترة ثلاث سنوات بالمُقارنة ببقية الاتفاقيات الدولية وعلى سبيل المثال العهدين الدوليين الذّين استقرت فترة ما يقارب العشرة سنوات بين عرضهم وسريانهم، إلا أن ضعف أداء المحكمة وعدم توحيد معايرها وتدخل مجلس الأمن في اعمالها وتهديد الدول الكبرى لها أفرغها من كونها آلية قضائية مستقلة وحولها لأداة من أدوات المجتمع الدولي يحركها كيف ما شاء ومتى ما شاء.
شارك المقال