المثقف وصناعة الواقع: دعوة لمراجعة الدور الثقافي

100
يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي

• عندما تكون كاتبًا، شاعرًا، قاصًا، فنانًا تشكيليًا، أو دراميًا، فأنت لست مجرد صانع نصوص أو أشكال، بل أنت منتج للثقافة، وهذا موقع يتطلب وعيًا يتجاوز حدود الإبداع الفني أو اللغوي. الثقافة، في جوهرها، هي الفهم العميق للواقع، والقدرة على التعامل معه بمرونة ومسؤولية، وتقديم أدوات فكرية تساعد المجتمع على رؤية ذاته، وتحليل تناقضاته، والبحث عن حلول لأزماته.

الواقع الذي نعيشه اليوم، على المستوى الاجتماعي والأسري والثقافي، يمر بحالة من التشظي، وهذا التشظي لا يظهر فقط في المشهد العام، بل يبدأ من داخل البيت الصغير، حيث يعجز كثير من الآباء عن إقناع أبنائهم بمفاهيم يرونها أساسًا لحياة سليمة. الآباء يربّون أبناءهم على منظومة من القيم، ليس عنادًا أو تسلطًا، بل إيمانًا منهم بأنها الأجدى والأصلح لمستقبلهم، في حين يرى الجيل الجديد أن الماضي كان عاجزًا عن تقديم رؤية ناجحة تجعلهم متصلين بالعالم ومتغيراته.

هنا، تحديدًا، تبرز مسؤولية المثقف: كيف ينتج عملًا ثقافيًا قادرًا على فك هذا التعارض؟ كيف يبني جسورًا بين الماضي والحاضر، وبين الأجيال، دون أن ينحاز بالكامل إلى طرف على حساب الآخر؟ الثقافة ليست صراع أجيال، بل هي وسيلة للفهم المتبادل، ولإنتاج خطاب قادر على تجسير الهوّة بين الرؤى المختلفة.

الثقافة والنظافة.. علاقة جوهرية

إذا خرجنا من حدود الأسرة إلى الشارع، سنرى فوضى لا تقل حدة عن فوضى القيم داخل المنازل. أكوام القاذورات في الطرقات، والاتساخ العام في المدن، لا يمكن تبريرها فقط بغياب الخدمات، بل أيضًا بغياب الوعي، وبالأخص غياب الدور الثقافي في تشكيل هذا الوعي. النظافة، قبل أن تكون خدمة بلدية، هي سلوك نابع من قناعة داخلية. إذ لا يعقل أن يرفض الفرد إلقاء الأنقاض داخل فناء بيته، ثم لا يجد حرجًا في رميها على بعد مترين من الباب.

هذا التناقض هو جوهر ما يجب أن يتصدى له المثقف. من خلال الشِّعر، القصة، الفن، الدراما، وحتى المقالات، يمكن بث رسالة واضحة: النظافة ثقافة، كما أن احترام الشارع احترام للذات. لا يجب أن يكون هناك فصل بين الخاص والعام في السلوكيات، فالمجتمع لا يُبنى بالمواسم، بل بالعادات اليومية، وبالوعي المستمر.

ثقافة الحوار داخل الأسرة

في ظل تصاعد النزاعات الأسرية، وفقدان لغة الحوار بين الأفراد، يصبح من المهم أن نعيد الاعتبار لمبدأ الحوار داخل الأسرة. على المثقف أن يدفع باتجاه إنتاج أعمال تكرِّس فكرة الاحتكام للمنطق، ووضع مصلحة الأسرة فوق المصالح الشخصية. فحين نربي فردًا قادرًا على التعايش داخل أسرته، فإننا نضمن خروجه إلى المجتمع بمبدأ أوسع: مصلحة الوطن فوق المصالح الذاتية. وهذه قمة الثقافة، أن تُربّي في الفرد احترام الآخر، وتقبل الاختلاف، وتقدير قيمة العيش المشترك.

الثقافة في التفاصيل اليومية

الثقافة لا تقتصر على الكتب والمسرحيات، بل تبدأ من التفاصيل الصغيرة. في طابور المخابز، في وسائل النقل، في كل مشهد من مشاهد الحياة اليومية، يمكن أن تتجلى الثقافة – أو تغيب تمامًا. حين نقتنع بأن من سبقنا في الطابور أولى بالخدمة، نكون قد تخلصنا من أنانية سلوك، وربما أنانية فكر، وهذه خطوة ثقافية لا تقل أهمية عن تأليف رواية أو عرض مسرحي.

ولذلك، على المنتج الثقافي أن يُعلي من هذه القيم في أعماله: الاحترام، النظام، حق الآخر، والمصلحة العامة. هذه ليست شعارات، بل أدوات لإعادة بناء وعي مجتمعي منهك بفوضى السلوك والقيَم.

دعوة للمثقفين: اتركوا الكراسي

من هنا، أدعو جميع منتجي الثقافة إلى الانشغال بالجوهر لا بالمناصب. الكرسي لا يدوم لأحد، وإن جاءت فرصته، فلا بد أن يكون المثقف مستعدًا لها ببرنامج واضح ومقنع، لا بطموح سلطوي أجوف. 

الأدوات الثقافية أقوى من المناصب، والتأثير الحقيقي لا يُقاس بعدد التصريحات أو اللقاءات، بل بمدى قدرة العمل الثقافي على إحداث تغيير ملموس في وعي الناس وسلوكهم.

كلمة أخيرة

الثقافة مسؤولية، وليست ترفًا. هي فعل يومي، واشتباك مستمر مع الواقع. والمثقف الحقيقي هو من لا يهرب إلى الأبراج العاجية، بل يغوص في تفاصيل الواقع، ويساهم في إصلاحه. من البيت إلى الشارع، ومن الفرد إلى الدولة، الثقافة هي الأرضية التي تُبنى عليها كل نهضة حقيقية.

 

شارك المقال

1 thought on “المثقف وصناعة الواقع: دعوة لمراجعة الدور الثقافي

  1. اخي الشاعر الهميم الوطني الغيور / يوسف عبد الرضي.. إنها صرخة مدوية في وادي الصمت الرهيب أن دعونا نلتفت لبناء وطن يسع الجميع ويسعى الجميع لوضعه في حدقات عيونهم ونتعايش فيه بقيم تقيه وتقينا الموبقات والفرقة و الشتات.. الكل يسعى لفائدة الكل ولا ينادي ( نفسي نفسي) في إحترام وتقدير..
    دمت بذات الألق الحضور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *