أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• في قلب المأساة السودانية، حيث يتقاطع الدم مع التراب، وتتعالى أصوات الرصاص فوق أصوات الضحايا، يقف المثقف السوداني أمام امتحانٍ أخلاقي هو الأشد في تاريخه الحديث. فحين تُرتكب المجازر في المدن المنكوبة كالفاشر، ويتحوّل الوطن إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للقتل، لا يعود السؤال عن دور المثقف ترفًا نظريًا، بل سؤالًا عن معنى وجوده نفسه: هل تبقى الكلمة صامتة حين يُذبح الإنسان؟
لقد تحوّل المشهد السوداني إلى مرآةٍ كاشفةٍ لانهيار القيم الإنسانية والسياسية معًا، حيث صار الدم خبرًا عاديًا، والنزوح مشهدًا متكرّرًا، والحزن اليوميّ لا يُحدث صدمةً في الضمير الجمعي كما كان من قبل. وسط هذا الخراب، لم يعد دور المثقف أن يصف المأساة من بعيد، بل أن يتقدّم الصفوف، حاملاً وعيه وضميره، ليُعيد للإنسان مكانته وللأرض كرامتها. فالكلمة اليوم ليست مجرّد وسيلةٍ للتعبير، بل آخر ما تبقّى من مقاومةٍ أخلاقيةٍ في وجه الفناء.
إنّ المثقف السوداني اليوم مطالبٌ بأن يكون ذاكرة الوطن حين تُمحى الذاكرة، وصوت الحقّ حين يخفت الجميع. فكلّ حقبةٍ مظلمة في تاريخ الشعوب أنجبت أصواتًا أعادت صياغة الوعي والكرامة، والمحنة السودانية ليست استثناءً. من بين الركام، يجب أن تنهض الكلمة لتقول للعالم إنّ هذا الوطن، رغم الجراح، ما زال حيًّا بعقول أبنائه وأقلامهم، وإنّ الكلمة، مهما خُنقت، ستظلّ قادرةً على فتح نوافذٍ للضوء في وجه العتمة.
المثقف ليس فقط من يحمل شهادة أو يكتب كتابًا، بل من يفكر بحريةٍ ويعبّر بمسؤولية، من يجعل من المعرفة موقفًا، لا زينةً شخصية. هو الذي يرى ما لا يُرى، ويتكلم حين يصمت الجميع، ويقف إلى جانب المظلوم لا إلى جانب المنتصر. هو من يربط بين الفكرة والواقع، بين الماضي والمستقبل، ويبحث في عمق الأشياء لا في سطحها. المثقف هو الذي يجرؤ على طرح الأسئلة التي يخشاها الآخرون، ويواجه السلطة حين تُخطئ، والمجتمع حين يتواطأ، والنفس حين تخاف. فالثقافة ليست حفظًا للمعلومات، بل قدرة على التفكير النقدي والشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الحقيقة والإنسان.
وفي السياق السوداني، فالمثقف هو ابن هذا التراب، يحمل ذاكرة بلدٍ مليءٍ بالتنوع والجراح، ومكلّف بحماية روحه من الضياع. هو من يُحاول أن يُعيد تعريف معنى الوطن، لا بوصفه خريطة، بل عقدًا أخلاقيًا بين الناس. ففي زمن الحرب والانقسام، المثقف هو الذي يُمسك بالخيط الرفيع بين الوعي والجنون، بين الغضب والأمل.
أولًا: مسؤولية الكلمة في مواجهة الرصاص
حين تُخرس المدافع المدن، وتتحول الفاشر إلى رمادٍ من الجثث والنزوح، لا يبقى للمثقف إلا سلاحه الأصيل: الكلمة. لكن ليست أي كلمة، بل الكلمة التي تُقاوم التواطؤ، وتُعرّي الجريمة، وتواجه الصمت المحلي والدولي. في مثل هذه اللحظات، يصبح التوثيق فعل مقاومة، والنشر شكلًا من أشكال الشهادة، والشهادة واجبًا وطنيًا. المثقف الحقيقي لا يكتب ليحصد التصفيق، بل ليمنع موت المعنى. عليه أن يُوثّق المجازر بالأسماء والأمكنة، أن ينقل للعالم ما يجري، أن يرفض الخطاب الذي يبرر أو يُلطّف من فظائع الحرب. ففي زمن تتعطل فيه العدالة، تصبح الكلمة وثيقةً قانونية وتاريخية. إنّ الصمت أمام المذابح، مهما كان مبرره، هو مشاركةٌ في الجريمة، لأنّ التواطؤ لا يكون دائمًا بالفعل، بل كثيرًا ما يكون بالإهمال أو الخوف أو الادّعاء بالحياد.
ثانيًا: المثقف كحارسٍ للذاكرة الوطنية
السودان اليوم يعيش أخطر مراحله منذ الاستقلال، إذ لم تعد الحرب مجرد نزاعٍ بين جيشين، بل صراعًا على هوية الدولة نفسها. وفي خضم هذا الانهيار، تُصبح الذاكرة الوطنية عرضةً للتزييف والنسيان. وهنا، يبرز دور المثقف كحارسٍ لهذه الذاكرة، يوثّق للأجيال القادمة ما حدث، لا من أجل الانتقام، بل من أجل عدم التكرار.
فالمجازر لا تُمحى بالصمت، ولا تُشفى بالجراح المفتوحة، بل تُشفى حين تُروى كما هي، دون تزويقٍ أو خوف. إنّ حفظ الذاكرة هو الخطوة الأولى نحو العدالة، لأنّ من لا يتذكّر ماضيه محكومٌ بتكراره. وما لم يكتب المثقف السوداني روايته الخاصة عمّا يحدث، فسيكتبها الآخرون بالنيابة عنه، بلغة المنتصرين، أو بلغة الصمت. الكتابة هنا ليست ترفًا فكريًا، بل فعل مقاومة ضد النسيان، وضد قتل الحقيقة مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بالصمت.
ثالثًا: كسر جدار العزلة وإحياء الضمير الجمعي
لقد نجحت الحرب في تفتيت السودان جغرافيًا ونفسيًا، لكن أخطر ما أنتجته هو التفكك الأخلاقي. صار الناس ينظرون إلى المأساة بعيون الجغرافيا والقبيلة، لا بعيون الإنسانية. الفاشر تُحرق، فيتفاعل البعض كأنّها مدينةٌ بعيدة، لا تخصهم إلا في نشرات الأخبار.
هنا تتجلى مسؤولية المثقف: أن يُعيد للضمير الجمعي قدرته على التوحّد أمام الألم، وأن يذكّر الناس بأنّ الدم السوداني واحد، وأنّ الجرح في دارفور هو الجرح نفسه في الجزيرة والخرطوم وكردفان.
المثقف ليس مجرّد ناقدٍ أو محلل، بل صانع وعيٍ جماعي. عليه أن يستخدم الأدب، الشعر، الفن، والمقال، لخلق لغة جديدة تُعيد تعريف الانتماء:
انتماءٌ للإنسان قبل القبيلة، للوطن قبل الفصيل، وللحقيقة قبل المصالح. وحين تُولد هذه اللغة، تبدأ أولى خطوات الخلاص من لعنة الحرب الطويلة.
رابعًا: مواجهة خطاب الكراهية والتفكك
واحدة من أخطر نتائج الحرب هي انفجار الكراهية في الخطاب العام – كراهيةٌ موجهة نحو المكونات القبلية، نحو المناطق، بل حتى نحو الضحايا أنفسهم. المثقف هنا لا يملك رفاهية الصمت، بل عليه أن يقف في وجه هذا الطوفان الأخلاقي. عليه أن يقول: لا للحقد، لا للانتقام، لا لشيطنة الآخر. فمن يكتب بلغة الكراهية لا يكتب من أجل الحرية، بل من أجل جرحٍ جديد في جسد الوطن.
الواجب اليوم أن يُبنى خطاب ثقافي مضاد، يؤمن بالتنوع لا بالفرز، ويحتفي بالاختلاف لا بالإقصاء. السودان لن يُبنى من جديد إذا ظلّ أبناؤه أسرى ذاكرة الانتقام. والمثقف هو أول من يجب أن يُحرّر نفسه من هذه الذاكرة السامة، ليفتح أفقًا جديدًا للمصالحة والعدالة الانتقالية.
خامسًا: المثقف في المنفى والداخل – وحدة الدور رغم المسافة
كثيرٌ من المثقفين السودانيين اليوم يعيشون في المنافي، بين كندا وأوروبا ودول الجوار الإفريقي. قد يظن البعض أنّ الغربة تُعفيهم من الدور، لكن الواقع أنّ صوت الخارج يمكن أن يكون أكثر تأثيرًا في فضح المأساة. على المثقف في المهجر أن يتحرك في مسارين متوازيين:
الأول دبلوماسي إعلامي: بالكتابة والنشر والضغط عبر الصحافة والمنظمات الدولية؛ والثاني تنويري إنساني: من خلال تأسيس مبادرات ثقافية، ندوات، ومعارض توثّق للحرب وآثارها.
أما المثقف في الداخل، فرغم خطورة الميدان، يبقى صوته الأكثر صدقًا وقربًا من الواقع. إنّ التكامل بين المثقف في الخارج والداخل هو ما يصنع قوة الوعي العام، ويمنع احتكار السرد من قِبل المقاتلين والسياسيين.
سادسًا: من نقد الواقع إلى بناء المستقبل
ليس المطلوب من المثقف فقط أن يصرخ في وجه القتلة، بل أن يرسم ملامح الغد. فالمستقبل لا يُبنى بالشتائم ولا بالبكاء على الأطلال، بل بتأسيس خطابٍ جديد حول الدولة، المواطنة، التعليم، والعدالة. على المثقف أن يتحول من ناقلٍ للألم إلى مُنتجٍ للحلول، أن يقترح سياساتٍ ثقافية جديدة، أن يشارك في صياغة مناهج تعليمية تُعيد الاعتبار لقيم التسامح والتنوع، وأن يُساهم في بناء مؤسسات فكرية تزرع الوعي المدني. إنّ المثقف الذي لا يرى نفسه جزءًا من مشروع إعادة البناء، يبقى شاهدًا فقط على الخراب، لا شريكًا في تجاوزه. وهنا الفرق بين الناقد والمبادر:
الأول يصف النار، والثاني يبحث عن الماء.
سابعًا: أزمة المثقف بين الخوف والالتزام
لا يمكن إنكار أنّ بعض المثقفين السودانيين يعيشون حالة من الخوف، سواء من البطش المباشر أو من حملات التشويه والاغتيال المعنوي. لكن التاريخ لا يرحم من اختار الصمت. فحين يسقط الأبرياء في الفاشر وغيرها، لا أحد سيتذكر من كتب نصًا حياديًا أو مقالة رمادية.
التاريخ لا يكتب الحياديين، بل الذين اختاروا جانب الإنسان مهما كان الثمن. وفي السودان، آن الأوان لأن يتحرر المثقف من خوفه، لأنّ الخوف لم يحمِ أحدًا يومًا، بينما الكلمة الشجاعة هي التي تُنقذ ما تبقّى من إنسانيتنا.
ثامنًا: أدوار عملية يمكن أن يضطلع بها المثقف السوداني
لا يكفي أن يُعبّر المثقف عن الألم، بل عليه أن يحوّله إلى فعلٍ ملموس. يمكنه أن يُنشئ مبادراتٍ للتوثيق والرصد، ويكتب بلغةٍ تُخاطب الناس لا النخبة فقط، وأن يستخدم الأدب والفن والموسيقى والمسرح لزرع الأمل وبناء الوعي الجماعي. كما يستطيع أن يوظّف منصات التواصل لتوحيد الأصوات السودانية في الداخل والمهجر، وأن يشارك في حواراتٍ تدعو إلى العدالة والمصالحة. فالمثقف ليس متفرّجًا على الحريق، بل هو الذي يحمل دلو الوعي في مواجهة النار، مؤمنًا بأن التغيير يبدأ بفكرة، وأن الكلمة الحرة يمكن أن تُنقذ حياة، أو تُعيد تعريف وطن.
الكلمة كآخر قلاع المقاومة
قد يظن البعض أنّ لا جدوى للكلمة أمام آلة القتل، لكن عبر التاريخ، الكلمة هي التي انتصرت في النهاية. فمن دونها، ما عرفنا معنى العدالة، ولا كتبنا الدساتير، ولا حفظنا ذاكرة الشعوب. الكلمة ليست مجرد حروفٍ على ورق، بل فعلٌ يُعيد للإنسان مكانته، وللوطن روحه، وللتاريخ معناه. المثقف السوداني اليوم مطالب بأن يكون الضمير الذي لا ينام، أن يكتب لا ليُعجب، بل ليُحدث أثرًا. فإذا سقطت الفاشر وسكت المثقف، فمن سيبقى ليحكي للغد ماذا حدث لنا؟
إنّ الكلمة، في هذه اللحظة، ليست وسيلة تعبير، بل وسيلة إنقاذ – إنقاذ للحقيقة، للوعي، وللسودان نفسه. ومن يملك القلم ولا يكتبها، فقد تخلى عن دوره في إنقاذ وطنٍ يُقتل كل يوم، في وضح النهار، وعلى مرأى العالم، الذي يشيح بوجهه، بينما يُنتظر من مثقفيه أن يفتحوا النوافذ على الضوء، ولو بجمرةٍ من الكلمات.
شارك المقال
