

بقلم : زين العابدين الحجّاز
• ولد المبارك إبراهيم فى جبال النوبة و تعلّم فى مدارس المبشرين ونزح الى كوستي وعمل ممرضا فى صباه و مساعدا بيطريا و محصلا للعوائد ثم إستقرّ فى أم درمان وعمل ممرضا فى مستشفى الإرسالية بأم درمان (التيجانى الماحى حاليا) . بدأ يقرأ الأدب العربى و المجلات الأدبية. إتصل ببعض الشعراء و تعرّف على (فوز) و توثقت صداقته مع التيجاني يوسف بشير و توفيق صالح جبريل . عمل صحفيا بجريدة النيل و مجلة الرابطة العربية ثم محررا بمجلة الاذاعة و مذيعا بالاذاعة السودانية .فى مجال الفن كان الأستاذ المبارك إبراهيم في بدايته مطربا ولكنه هجر الغناء و يعود السر في ذلك إلى أن المبارك عندما شرع فى تسجل أغنية « ياقمر « فى أسطوانة بالقاهرة لم تكن الأغنية موفّقة لأن الفرقة المصرية المصاحبة لم تتوصل إلي اللهجة اللحنية السودانية المطلوبة و فشل تسجيل الأغنية ولم تتم المحاولة مرة أخري لذلك فشل المبارك كمطرب بل ترك الغناء نهائيا وأصبح إذاعيا لامعا . إلتحق المبارك بالإذاعة عام 1942م وكان في ذلك الوقت مذيعا شاملا يقدم ما يسند إليه من أخبار وقد حقق أول سبق صحفي إذاعي عندما إستضاف السياسى المصرى أحمد حسين رئيس حزب مصرالفتاة وهو عائد من منفاه فى طريقه إلى مصر وذلك عقب إندلاع ثورة يوليو عام 1952م فى مصر.عندما عمل المبارك في مجلة الإذاعة إستفاد من مواد المجلة في البرامج الإذاعية ومن مواد البرامج في صفحات المجلة حين كان ( الصفّيف) هو الفنان عبدالعزيز محمد داؤود . في خلال فترة الخمسينيات والستينيات قدّم المبارك إبراهيم العديد من البرامج المتميزة منها (حقيبة الفن) و (شعراء الحقيبة) و(تاريخ الغناء السوداني) و (من فنون الأدب) و (مع الكتب) و (ركن الأدب) و(بين الماضي والحاضر) وغيرها وقد إحتوت مكتبته على أوراق ضمّت الكثير من حلقات تلك البرامج مكتوبة بخط يده الذى كان يتميز بالوضوح و الجمال .

ذاع صيته من خلال تقديمه لبرنامج (حقيبة الفن) والأستاذ صلاح أحمد محمد صالح كان له فضل المبادرة فى تأسيس وتقديم هذا البرنامج أعقبه الأستاذ على شمو و كان المبارك إبراهيم ثالث من قدّم هذا البرنامج و كان له الدور الكبير فى تطويره وشهرته . تميّز المبارك باسلوبه فى التقديم و بطريقته المهذبة فى توقير ضيوف البرنامج فلا يخاطب أحدا بإسمه إلا مسبوقا بلقب سيد أو أستاذ أو شيخ و كان يميل إلى شرح معاني الأغاني القديمة ليسهل فهمها على الجيل الجديد . و من خلال جودته فى التقديم و التطوير أضفى المبارك على برنامج (حقيبة الفن) صبغة زاهية و جاذبة كما نجح فى إقناع مسؤلي الإذاعة و التلفزيون لفتح الباب أمام الثنائيات أولاد شمبات و أولاد الموردة و ميرغني المأمون و أحمد حسن جمعة بتسجيل وتوثيق ما فقد من أغنيات حقيبة الفن وكان حريصا على تجويد أداء تلك الأغاني من قبلهم لذلك كان يطلب منهم أن يكونوا كورسا لبعضهم البعض . ذكر عوض شمبات أن المبارك حجز لهم فى الستينات إستديو الإذاعة لبضعة أيام حرصا منه على تسجيل الأغنيات التى فقدت ليسجلوا نحو 15 أغنية وكان معهم فى الحجز نفسه أولاد الموردة و طلب من الفريقين أن يتبادلا الغناء فيغني أولاد شمبات و يعاونهما فى الكورس أولاد الموردة و العكس كذلك . كما حرص المبارك على إستضافة كل شخص قام بدور يذكر فى مجال الغناء فى حلقات البرنامج فاستضاف قدامى المغنين الذين هجروا الغناء منذ أمد بعيد مثل المطرب على الشايقي و الفنان عبد الله الماحي . ولقد بدأ مع الشاعر إبراهيم العبادي فى تسجيل حلقات للحديث عن شعراء وفناني الحقيبة والتسجيل الوحيد لحوار مع الشاعر على المسّاح كان بواسطتة . إستضاف المبارك إبراهيم عددا من الأدباء و الشعراء حاورهم و حقق معهم فترك سجلا و ثائقيا لايقدّر بثمن .
عندما كان المبارك إبراهيم عضوا فى لجنة النصوص كان حريصا على تجويد الأغاني من قبل الفنانين لذا كان يحذف بعض الكلمات والأبيات من الاْغاني قبل إجازتها للتسجيل. ذكر الفنان عبد العزيز محمد داؤود للأستاذ محمود أبوالعزائم في برنامجه (كتاب الفن) إنه عندما أراد تسجيل أغنية (هل أنت معي) للشاعر المصري أحمد محمد علي وألحان برعي محمد دفع الله حذف منها المبارك إبراهيم أبياتا وقال أبوداؤود بالنص في ذلك البرنامج : ( كرّهنا المبارك إبراهيم في الأغنية بعد حذف هذه الأبيات :
ذوبت في ثغره خمر العناقيد السكارى
وعلى خديه ورد حالم حلم العذارى
لم يعد لي من هواه غير أوهام العذارى
و ذكر»عصفور السودان» الفنان إبراهيم عبد الجليل في مذكراته التي نشرها له ديمتري البازار أن سبب دماره ونهايته كفنان هى دار الإذاعة متمثلة فى الطاغية المتجبّر المبارك إبراهيم والذى منعه في إحدى المرات من دخول الإذاعة و الغناء فيها عندما جاءها وهو « منتشيا «. لا يعني هذا أن الأستاذ المبارك كان متسلّطا ومستغلّا لمنصبه بقدر ما كان حريصاً في المقام الأول بأن تكون الإذاعة منبرا للسلوك المستقيم تبث الفنون الراقية و النصوص الشعرية العفيفة بمنهجية تربوية شاملة .وهبه الله ذاكرة حافظة و معرفة واسعة بأسماء و أصول المدن و القرى السودانية . فى الستينات حضر باحث من جامعة هارفارد لعمل بحث عن تاريخ المسيحية فى السودان فلجأ إلى المبارك إبراهيم وسأله عن المسيحية فى دنقلا فأجابه بأن هناك بقعة تسمى ( الكنيسة) كانت مركز التبشير المسيحى و أن بلدة (تنقاسي) أصلها (تنداسي) التي تم ذكرها فى أعمال الرسل و أفاض المبارك فى الشرح حتى وصل إلى (بري) في ولاية الخرطوم التى قال أنها سميت على كاتدرائية ( كانتربري ) أقدم و أشهر كنيسة في انجلترا . إمتلك المبارك إبراهيم مكتبة عامرة أهداها قبل وفاته لمعهد الدراسات الافريقية والاسيوية إحتوت على العديد من الوثائق التاريخية المهمة أشرف على تصنيفها مدير الإذاعة السابق أبوبكر خاطر. إن من ينظر الي تلك الوثائق التي جمعها المبارك إبراهيم يدرك مدى موضوعيته في ذلك الزمان الذي لم يكن يعرف التخصص . المساهمة الكبري للمبارك إبراهيم في حقل الثقافة السودانية كانت فى مجال الفولكلور ويدل على ذلك وجود ما يزيد على الثلاثين وثيقة في مكتبته تحتوي على مختلف المنوعات الفولكلورية منها أسطورة تاجوج و مناحات قيلت في عبدالقادر ود حبوبة و موسى ود جلي (حليل موسى) وغير ذلك من ألوان الأدب الشعبي وتطور إسهامه في هذا المجال الي إصداره مع د.عبدالمجيد عابدين كتاب (الحاردلو أمير شعراء البطانة ) . البعض يصفه بانه سار على الدرب الذي بدأه محمد النور ضيف الله في (الطبقات) وبابكر بدري في مذكراته وجاء من بعده آخرون منهم محجوب كرار وعمر الحسين والطيب محمد الطيب. من يطّلع على سيرته الذاتية يكتشف مدى الغموض الذي أحاط بحياته بدءا من الفشل في تحديد فترة ميلاده إلي وصفه وإتهامه بالانطوائية ثم إكتشاف علاقاته الواسعة التي أتاحت له جمع كل تلك الوثائق من أشخاص متعددين ومعظمها بخط اليد. إختفاء ملف عمله الذي يحتوى على المعلومات الشخصية الصحيحة عنه يثير الكثير من الشكوك خاصة أن كل معاصريه أجمعوا على أنه كان كتوما ولا يتحدث أبدا عن حياته الشخصية. يضاف إلي ذلك الغموض الجدل الذي أثير حول إسلامه ومسيحيته وحادثة إغلاق مكتبته الإرسالية بعد أن أشرف على محاضرة قدمها أحد المستشرقين عن سيدنا عمر بن الخطاب أثارت حينها جدلا دينيا كثيفا. يرتبط المبارك إبراهيم بعلاقة وطيدة مع عائلة طه زكي خاطر والد حسين طه أول مدير للإذاعة و عم أبوبكر إسماعيل خاطر مدير الإذاعة السابق . تزوج من الرّحمة عبد الله إسماعيل ولم يرزقا بمولود وله شقيق أصغر وهو حسين إبراهيم توفى بعده .
سكن المبارك إبراهيم فى حى العباسية الأم درماني على بعد خطوات من منزل عائلة الشاعر صلاح أحمد إبراهيم ثم إنتقل أوائل الستينات إلى مدينة الثورة الحارة الأولى شارع النص جوار منزلنا . شاهدت شاعر الحقية ابراهيم العبادي وهو يزوره في منزله . كنت أقابله يوميا و لن أنسى منظره صباح كل يوم جمعة و هو يجلس على كرسيه فى ضل الضحى عند حائط منزل جارنا العم طه زكي خاطر مرتديا جلبابه المنزلي و بين كفيه راديو ترانسيستور وهو يستمع الى حلقة برنامج (حقيبة الفن) التى قام بتسجيلها فى يومه السابق . فى عام 1964 م إستضاف شقيقي المرحوم صلاح الحجّاز فى إحدى تلك الحلقات نالت إعجاب الكثيرين و كانت إذاعة ( ذاكرة الأمة ) تشنّف آذاننا بتلك الحلقة من حين لآخر. فى عام 1972 م غادر المبارك إبراهيم الحياة الدنيا ولم يصحبه لقب أو تشريف .. غادر وهو غير مفهوم وغامضا فى حياته عند الكثيرين وغريبا وهو أقرب الأقربين .. غادر وترك لنا إرثا ثقافيا تعتز به الأجيال من بعده.
شارك المقال