يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي

• من أين يبدأ الحزن؟

ربما من صوتٍ مخنوق ينفجر وسط السكون: فلان مات!

أو من صمتٍ ثقيل يهبط فجأة على البيت، يقطع الأنفاس، ثم ينفجر بالصراخ والنواح.

أكتب هنا عن مشاهد الطفولة التي ما زالت تعيش في داخلي لا كصور بعيدة، بل كنبضات متجددة. كانت الوفاة في زمننا نادرة، لكنها حين تقع، تهزّ القرية كلها كما لو أن شجرةً عظيمة اقتُلعت من جذورها.

نحن أبناء الستينات كنّا نخاف الموت كما نخاف العتمة، ونتجنّب المقابر كأنها أبواب تُفضي إلى مجهول لا عودة منه. والموت وقتها لم يكن خبرًا عابرًا، بل زلزال صغير يهزّ الأرواح. لحظة وقوعه، يمتزج الصراخ بالنحيب، وتختلط أصوات الرجال بأصوات النساء، ويتحوّل البيت إلى بحر من الحزن الصامت والمعلن. حتى الضحك يصبح جريمة، وحتى الكلام العادي يبدو نشازًا.

النساء يلبسن «الدمورية» إن كنّ من الأقارب البعيدين، أمّا القريبات فيرتدين «الدمور» الثقيل والخشن، وكأنّ الحزن نفسه يفرض قماشه. قماش يوجع الجسد كما يوجع القلب. يُمنع الطِيب والحناء، ويُفرض الحداد حسب القرابة. ويسمّى هذا الطقس بـ»الحفّة»، ويمتد أسبوعًا على الأقل، وقد يصل إلى أربعين يومًا.

«الفراش» – مجلس العزاء – لا يُغلق ليلًا. شباب القرية يتناوبون المبيت فيه، يستقبلون الوافدين، يقدّمون القهوة والشاي، ويعيدون ترتيب المكان، فالضيوف قد يأتون في أي ساعة. لم يكن الأمر تكليفًا، بل واجب وشرف.

أما خبر الموت، فكان يصل أحيانًا عبر المرسال، رجل يسابق الزمن  ليطرق أبواب القرى المجاورة، صوته مبحوح من تكرار العبارة الثقيلة: فلان… مات. كان الناس يتوقفون عن أعمالهم، وتغيم العيون قبل أن تكتمل الجملة.

وكان أيضًا هناك «جواب الموت»، يُكتب باليد، ويُرسل مع أحد الركبان، ولا يُغلق أبدًا، لأن العرف يقتضي أن يقرأه كل من تقع عينه عليه. أذكر أنني مرة أغلقت ظرفًا منه، فصاح بي أحد أعمامي :«جواب الموت ما بيتقفل… دا خبر لازم الناس كلهم يقرأوه». 

وكانت الإذاعة وسيلة أخرى. يُرسل الخطاب إلى إذاعة أم درمان، فيُذاع في نشرة الثامنة مساءً، تلك التي كنّا نسميها في براءتنا: «نشرة الميتين». 

ومن الطقوس التي لا أنساها، أنّ الأطفال لا يأكلون حتى يعود العنقريب من المقابر. سألت جدتي ذات يوم:

«ليه ما بناكل لحدي ما يرجع العنقريب؟»، 

فقالت بنبرة يختلط فيها الحزن بالحكمة:

«عشان تعرفوا إنو اليوم… القرية فقدت حاجة كبيرة». 

هكذا كنّا نحزن، وهكذا كنّا نودّع موتانا، لا بالخوف وحده، بل بطقوس تحفظ للراحل هيبته، وللحزن جلاله، وللحياة احترامها أمام الموت.

وأعدكم أن أعود في مرات قادمة، لأحكي عن تفاصيل أخرى من زمنٍ لا يُنسى.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *