

جمال بوثلجة - الجزائر
• أعترف لك سيدي أنني كنت أنانيا ..نعم كنت أنانيا، ربما لأنني كنت مشوشا ..مرهقا، أو بسبب حالات اليأس بداخلي..
حاولت ..حاولت، أن أشرح لك حالتي، أن أصارحك بالحقيقة، لكن في كل مرة كنت أتراجع أمام الأمل الذي كنت تزرعه وسط هذا الركام ..فأركض ..أركض في مساحات هذا الحلم بسعة الخيال ..
كانت كلماتك تملأ هذا الخواء، تقلص من دائرة التيه، وتصنع دلك الرنين المتوهج في أذني التائهتين.
عندما زرتك استقبلتني بوجه بشوش، وابتسامة ودودة، صافحتني بحرارة، كانت يدك ناعمة كقطعة إسفنج، ثم جلست خلف مكتبك تداعب نظاراتك الملقاة فوق تلك الأوراق وبينما كنت منهمكا في شرح حالتي، كانت عيناك تتفحّصني.. تترصد حركاتي وسكناتي ولمّا انتهيت، ابتسمت وأنت تلوح بيدك في الهواء، كمن استراح من عناء كبير، ثم رحت تشخص حالتي بعيدا عن كل التعقيدات العلمية، فقد يكون السبب نقص بعض العناصر الغذائية في الجسم، أو بسبب التوتر والقلق والاضطرابات النفسية ..وأمام رزمة الاحتمالات، طلبت منّي إجراء بعض التحاليل لتحديد نوعية الدواء.
كنت أبحث عن أي شيء أتعلق به، عن وهم يضلني وكنت أنت ذلك الوهم..
أحيانا كانت تنتابني رغبة في أن أبصق في وجهك حقيقتي، ثم أغرق في قدري، لكن في كل مرة كنت أتراجع لأبني بكلماتك وهما جديدا، أعرف أنه ومع مرور الوقت، بدأت تتساءل عن سر عجزك، عجز سطوة علمك.. تشكك في قدرتك، وتغرق .. تغرق، في تلك التفاصيل الدقيقة، بحثا عن حقيقة مخبأة هنا أو هناك.. اسمح لي يا سيدي أن أستعمل هذه العبارة، التي ربما قد تؤذي مشاعرك «لقد كنت تغرق في أحلام من صنع رغبة زائفة»
فقط ..فقط، لو عرفت فظاعة فعلتي، لأدركت حينها حجم فاجعتك .. ولو عرفت سر هذه الرائحة الكريهة التي تنبعث من جسدي، لأدركت حينها سر عجزك.
آه .. يا سيدي
كانت الرائحة تنبعث بشكل لا يطاق، أينما اقتربت تصفعني النظرات الفضة، كنت أراهم يتقيّأون القرف، وهم يطلقون تلك التعليقات الساخرة، والتي تنصحني بالاستحمام، ليمتد الألم ويمتد، إلى بقايا أنسان منكمش بداخلي ..
جربت كل أنواع العطور التي كانت تحميني للحظات، لكنها لم تغير من الواقع شيئا..
هل جربت يا سيدي هذا النوع من الألم، حين ينبذك الجميع ، وتصبح تسبح في فراغات كبقايا انفجار، ومع الوقت تجد نفسك مجبرا على تدريب خيالك ليتحمّل هذه الحياة المليئة بالقلق والاضطراب، وتصبح أحلامك كحديقة مهجورة تنبعث منها الروائح الكريهة اللاذعة؟ ويملؤك الإحساس بأنك تشيخ دون أن تظهر عليك التجاعيد، وأنك تسير دون أن ترى الحياة؟.
في كل مرة كنت أسير بخطى سريعة عبر الشارع، متفرسا في وجوه المارة، باحثا عن نظرات الاشمئزاز، وفي كل مرة كنت أبحث عن غيري بالتفاتات مسرحية، كأنني لست المقصود.. كانت كل نظرة، كل حركة تنهشني، تفجر كومة الأحزان بداخلي.
مع الأيام بدأ الهدوء يهرب مني، ليسكن رأسي ذلك الضجيج المستفز، صرت أدخن بشراهة، ليس حبا في التدخين ولكن كنت أبحث عن شيء يختصر مسافات هذا العمر حين تغرق في اليأس، أنت تغرق في العجز..
فقدت شهيتي، والاهتمام بمظهري، وسارت الليالي مجرد غفوات مقتضبة، أستيقظ بعدها مفزوعا، وكأن سكينا حادا على وشك أن يحز رقبتي..
أحيانا كنت أتساءل: ألا تستحق حياتي بعض العناء للخروج مما أنا فيه ؟ محاولة التخلص من هذه الرائحة الكريهة التي تصنع كوابيس يومياتي ؟؟ كنت أريد أن يرحل هذا الألم من داخلي، لهذا كان قراري باللجوء إليك إنّها مثل تلك القرارات التي نتّخذها ونحن على حافّة الهاوية.. هي لحظة تتوقف فيها الأفكار عن الحركة لتصبح مبهمة.
اعذرني سيدي.. لا تخدعك حيرتي وكثرة تساؤلاتي.. لا يخدعك مظهر البلاهة الذي أدعيه أمامك، لا تخدعك تلك الأفكار التي تبدو مشوشة وغبية، لا يخدعك ذلك الهدوء الذي تراه أحيانا يهرب منّي، ويتحوّل إلى ضجيج يستفز قدرتك ورغبتك..
الآن وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل، أكتب إليك.. إنّها ليست نكسة صحية عابرة، إنّي أتخلى عن هذه الصور المشوشة بداخلي وهذا المسار المتعرج الذي مشيت فيه والذي زادني توهانا، لأخبرك بالحقيقة حقيقة هذا الجسد، وهذه الرائحة التي سخرت منك، وتحدّت علمك وسنوات خبرتك.. إنّها ليست بكتيريا جلدية اختلطت مع العرق.. ليست بسبب فقدان جسمي لبعض الألياف الضرورية، ولا حتى بسبب التوتر والقلق.. أتخيل الآن حجم دهشتك وفاجعتك، وأنا كنت ضحية خداع وأنا أخبرك أنها رائحة جثة طفل تسللت إلى جسدي لتتفسخ مع مرور الوقت، وتصبح لحما نتنا يفوح بهذه الرائحة التي لا تطاق.
مازالت تلك اللحظات المرعبة كالمسامير تطرق رأسي بعنف وبدون رحمة.. هل أقول لك أنني كنت مخمورا، وأن أفكاري كانت تسبح كأرجوحة في الهواء، أو أقول لك بسبب الضجر الذي يجعلنا نرتكب تلك الحماقات.. كلا.. كلا يا سيدي، لن أجرؤ على مثل هذه الإهانات السخيفة، فقط أعترف لك بما حدث..
وجدته يلعب أمام مدخل العمارة ، تقدمت منه مبتسما، لعبت معه قليلا بعيدا عن الأنظار، ثم استدرجته إلى داخل شقّتي، لاعبته.. لاطفته، وفجأة انطلق ذلك الصوت الظامئ بداخلي لينقض عليه كالوحش.. انقبضت ملامح وجهه المنطلقة في لحظة رعب لم يستوعبها في حينها، ربما ظن أنّها فصل من فصول اللعبة، وعندما أدرك الحقيقة انطفأت ابتسامته، وبدأت الدموع تتجمع في عينيه ثم تنحدر على خديه بغزارة، حاول أن يدفعني بيديه الصغيرتين، لكنني كنت قد أحكمت قبضتي عليه، وعندما أدرك هذه الحقيقة راح يستعطفني، وأن أتركه يذهب إلى أمه، ولمّا تملكه اليأس بدأ بالصراخ، وضعت يدي على فمه وانطلق ذلك الوحش بداخلي يصرخ : «اضغط.. اضغط أيها اللعين حتى لا يمتد صوته إلى آذان خلف الجدران ربما كانت تترصدك».
مزقت ثيابه بوحشية.. لحظتها كان يسيطر علي غرور القوة، وتلك الغريزة البدائية البهيمة ويمتد ذلك الصراخ بداخلي «اضغط؟؟ اضغط أيها اللعين».
وفي لحظة انتبهت لهذا السكون المفاجئ، لهاتين اليدين اللتين لم تعودا تدفعاني، لهذا الرأس المتمايل في كل الاتجاهات.. طارت منّي أيّ نشوة، وقد بدأت أدرك حجم الفاجعة ، مددته على الأرض.. عينان مفتوحتان منطفئتان، وفم نصف مفتوح، وملامح رعب لا تزال تسكن ذلك الوجه الطفولي رغم برودته.. رحت أنظر إليه بعينين مذهولتين وقد انطلق بداخلي ذلك العواء، تحوّل في لحظات إلى صرخات مغمومة تملأ المكان، انحنيت على الجثة متحسّسا أنفاسها، وضعت أذني على هذا الصدر الصغير لعلّي ألتقط نبضا يعيد بعض الأمل.. حاولت.. حاولت، لأدرك في الأخير أنّ الحقيقة أصبحت كابوسا سرمديّا
جلست في زاوية مظلمة من الغرفة، أتأمل هذا الفراغ الممتد من حولي، كلّ حواسي أصبحت أسيرة قلق مبهم بعد أن تخلّت رغبتي عن بطولتها..
نهضت بتثاقل وبخطى بطيئة مرتبكة، تقدمت من الجثة ثانية أتأمل هذا الطفل الذي عرّته بهيمتي وقتله خوفي وفزعي.
وفي لحظات الذهول تلك، تناهى إلى سمعي تلك الأصوات الصاخبة التي أعادتني إلى واقعي، والتي تبدو غير بعيدة، أخذت تزداد مع مرور الوقت.. تدافع.. ضوضاء، وتسلل إلى أذني بكاء امرأة، اندفعت نحو الباب ورحت أصيخ السمع محاولا التقاط كلمات تساعدني على فهم ما يجري، وفجأة تراجعت متعثرا وأنا أسمع تلك النبرة الجاسمة القريبة من الباب والتي تأمر بالانتشار والبحث في كل مكان، فلا يمكن أن يكون ابتعد كثيرا..
عدت للغرفة وأنا أفرك راحة يدي محاولا استجماع بعض ما بقي من أفكاري لعلّي أصل إلى حل يخرجني ممّا أنا فيه.
كنت أتحرك في كلّ الاتجاهات وبدون وجهة محددة، مترعا بتلك الهواجس المرعبة، كلّ شيء ضاع بعد أن تشابكت الأزمنة وغاصت في فجوات الرعب اللامتناهية.
كان عليّ انتظار الفرصة المناسبة، وقبل أن يعلن الفجر عن نفسه حملت هذه الجثة المرتخية بين ذراعي بيدين باردتين مرتجفتين وخرجت متسللا، كان الجو باردا بعد أن توقّفت الأمطار، وضعته في صندوق السيارة وانطلقت..
كانت الغابة كثيفة والوحل يصعب الحركة، ضوء الهاتف يقود خطواتي المتعثرة المنزلقة فوق هذه الأتربة اللزجة، وهذا الصمت يبعث على الانقباض.. أخرجته من الكيس، وضعته على الأرض المتشبعة بمياه الأمطار، وانطلقت راجعا دون التفاتة.
في المساء كان المكان ممتلئا بالنّاس يثرثرون بأفكار واحتمالات، ومن هناك خلف ذلك الباب الحديدي نصف مفتوح، ينطلق ذلك العويل وصرخات الفاجعة المريرة المنبعثة من أحشاء امرأة تنادي صغيرها.
بعد ثلاثة أيام من البحث أعلنوا العثور على جثة الطفل وسط الغابة، أو كما قالوا» ما بقي منها» بعد أن نهشتها الحيوانات، ولم يتعرّفوا عليها إلا من خلال الثياب الممزقة.
آآآآه يا سيّدي..
انطلقت أضحك، في حلقة هستيرية.. هل كنت أسخر منهم أم من نفسي ومن قدري، من تحرري أم من سجني الأبدي؟ لست أدري، كل حواسي سقطت في موجة من الهذيان المحموم..
فجأة توقف كلّ شيء.. جثوت على ركبتي ورحت أضرب رأسي في الحائط وأنا أشد شعري، وانطلق ذلك الصوت الحيواني معبرا عن شيء ما.
حاول أن تفهمني يا سيّدي، أنا لم أكن أسخر منك، كنت فقط أبحث عن حلم آخر لا يشبه وجعي وفاجعتي.
الوداع»
بخطى ثقيلة مرتبكة رحت أسير على طول الشارع، كنت أشبه سيارة قديمة على طريق سريع، ذاكرتي مشوشة وقد توغلت في مساحة هذه الأسئلة، التي راحت تدور.. تدور في هذه الفراغات دون أجوبة، لقد ترددت كثيرا لكن عليّ التخلص من هذا العبء الذي أنهكني.
حملت الرسالة وتوجّهت إلى عيادة الطبيب، كان الوقت متأخرا وكما خططت لم يكن الطبيب في عيادته، لم أكن أرغب في رؤيته، كانت الممرضة تستعد للمغادرة هي الأخرى سلّمتها الرسالة ورجوتها أن تسلّمها للطبيب في صبيحة الغد فالأمر هام وضروري، ثمّ اندفعت مسرعا للشارع..
بدت الشمس المتوهجة وكأنّها تحتضر بعد أن بدأت الغيوم الصغيرة في صنع تلك الأجواء الخريفية، كانت الشوارع والطرقات تعجّ بتلك الحشود الغفيرة التي لا تتوقف هتافاتها وأهازيجها، البعض منهم كان يرفع شعارات وصور، اندفعت نحوهم، كانت رائحتي تسبقني، وكالعادة تلقفتني النظرات.. سدوا أنوفهم بأصابعهم، بثيابهم، توقّفوا.. تماوجوا تفرّقوا، ثمّ انطلقوا يركضون بلا اتجاه كأحصنة معصوبة العيون.. البعض منهم سقط لتدوسه الأقدام، حملت إحدى اللافتات الملقاة على الأرض، وانطلقت أجري وأنا أصرخ بصوت تملؤه الدموع» كليتو لبلاد يا سرّاقين.. كليتو لبلاد يا سراقين».
شارك القصة