
عوض الكريم فضل المولى
كاتب صحفي
• وهل التاريخ وصمة في حياة الشعوب، أم هو بداية التطور؟
إنها صرخة في آذان النخب المثقفة لنحتفي بمكارم التاريخ اليوم، ذاك التاريخ الذي كنا بالأمس كله.
السودان بلد التنوع والتعدد، بلد الثقافات الممتدة من النيل الأزرق حتى الصحراء الكبرى، ومن سواحل البحر الأحمر إلى أعماق كردفان ودارفور. هذا التعدد لم يكن يومًا سببًا في الفرقة بقدر ما كان مصدر ثراء إنساني واجتماعي. فالسودانيون، قبل أن تعبث السياسة والأيدلوجيات الدينية المسيسة والاستلاب الثقافي بالعقول وتزرع الانقسامات، عاشوا على قاعدة البساطة والعفوية والسجايا السودانية، متحابين متآلفين، لا يفرق بينهم وضع اقتصادي، ولا موقع جغرافي، ولا انتماء قبلي، ولا تميز ديني. والزائر إلى جبال النوبة وجنوب السودان يلاحظ في البيت الواحد مسلمين ومسيحيين وكجوريين وغير منتظمين إلى أي أيدولجيا. إخوة وفي تناقم وتآلف دون فوارق.
الناظر إلى حياة الناس قبل خمسين عامًا وبعض الوحدات الجفرافية، اليوم في عدد من الولايات، يجد عالمًا مختلفًا، عنوانه الصفاء والسماحة، حيث القيم الأخلاقية والروابط الإنسانية أساس التعامل اليومي. لم تكن المرأة تُحاكم على ما ترتدي من زي، ولم يكن الرجل يُسأل عن أصله، أو قبيلته، أو مكان ولادته. بل كانت العادات والتقاليد – على تنوعها – حاضنة لقيم أصيلة: الكرم، احترام الكبير، الحياء، الغيرة وحماية الجار وصونه، وإعلاء قيمة الإنسان قبل أي شيء آخر.
خذ مثالًا بسيطًا من ثقافات النيل الأزرق، أو جنوب السودان، أو قبائل الرعاة السيارة، حيث اللباس التقليدي للنساء أو ما عرف بالتنورية (قطعة قماش بعد تطور الرحط) أو القرقاب والشُمارة، في زمن مضى. هذا الزي لم يكن مجرد قطعة قماش تُرتدى بغض النظر عن طوله وعرضه. ضيّقه أو واسعه، لونه أو خامته، لكنه يحمل معه معنى الحياء والاحترام، ويعكس انتماء المرأة لمجتمعها، ويُظهر مكانتها داخل الجماعة. لكننا اليوم، بدلًا من البحث عن المعاني والقيم التي ارتبطت بهذا الموروث، نحاكمه بمنطق «الجهل» و»التخلف»، رغم اختلاف الزمان والمكان. متناسين أن ما نحتقره اليوم هو ذاته ما نبذل الأموال والجهود في الدعوة الإسلامية والبرامج التربوية لإعادة القيم الإنسانية التي تدعو لها الأديان والعهود والمواثيق الدولية (العفة، الطهر، الاحترام).
المشكلة ليست في العادات ولا التقاليد، بل في زاوية النظر إليها من حيث ثقافة الفرد وليس من حيث القيم الإنسانية. نحن اعتدنا أن نُسقط عليها أحكامًا جاهزة استوردناها من عقول مشوهة بالسياسة والأيديولوجيا، فصرنا نحتقر ما هو جزء من كياننا الجمعي، ونلهث وراء قشور ندعي أنها الحداثة.
إن واجبنا اليوم أن نعيد اكتشاف هذه الكنوز المخفية في تفاصيل حياتنا الماضية: في صفاء الروح، وسلامة العقل والسريرة، في طريقة الجلسة، في طقوس الزواج، في أهازيج الحصاد، في حلقات الذكر الصوفي، في الرحمتات، وجلسة جبنة سيدي الحسن، في كرامة السبعة، وأربعين الوفاة، في لباس النساء، وفي موائد الطعام التي كانت تُمدّ للجميع بلا سؤال عن الهوية. كل هذه ليست مظاهر بدائية كما يُصوَّر، بل هي قيم إنسانية عالية، تحتاج إلى إعادة قراءة بوعي جديد.
ساكتين ليه؟
لماذا ندفن ما هو جميل فينا؟
لماذا نصف عاداتنا بالجهل بينما العالم اليوم يبحث عن فلسفة «العيش المشترك»، التي مارسها أجدادنا ببساطة ودون تنظير؟
إن التراث والعادات ليسا كتابًا مغلقًا نحاكمه بمنطق الماضي، ولا صنمًا نعبده بلا وعي، بل هما رصيد من التجارب الإنسانية التي صاغت وجدان المجتمع السوداني. واجبنا اليوم أن نقرأ هذا التراث بعين النقد الإيجابي: نأخذ منه القيم الفاضلة التي تعزز التماسك والاحترام والكرامة، ونترك ما تجاوزه الزمن.
فالتاريخ ليس عبئًا، بل متكأ ومنصة انطلاق، وبوصلة حياة متجددة. وإذا أردنا أن ننهض كسودانيين، فلا بد أن نتصالح مع عاداتنا وتقاليدنا، نستنطقها بوعي جديد كما نستنطق الأهرامات والرسومات النوبية الفرعونية الأحفورية منها والمنحوتة، ونخرج منها ما ينفع حاضرنا ومستقبلنا. أما احتقارها ووصمها بالجهل المطلق، فهو جهل آخر، أشد خطرًا، لأنه يقطعنا عن جذورنا، ويجعلنا غرباء منبتين في أرضنا.
إذن… ساكتين ليه؟
دعونا نبدأ من هنا: من إعادة اكتشاف قيمنا المخبوءة في تفاصيل حياتنا، لنصنع بها مشروع نهضة سودانية أصيلة، لا نستورد هويتها من الخارج، ولا نخجل من ماضيها.
شارك المقال