
الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• في سابقة تثبت أن عبقرية البيروقراطية السودانية لا تعرف حدوداً، أعلنت وزارة العدل بالتعاون مع قوات حماية الحياة البرية عن أولوية وطنية جديدة.. مقاضاة حديقة حيوانات أمريكية لاستعادة «إنجاليفو» – ذلك الوحيد القرن الأبيض الذي هاجر إلى أمريكا في تسعينيات القرن الماضي، بينما كان السودانيون يهربون من ويلات الحرب والجوع.
يصرح اللواء عصام الدين جابر مدير قوات الحياة البرية بأنّ الحيوان «جزء من التراث الوطني»، في تناقض صارخ مع واقع يُنسى فيه المواطنون يومياً. فكيف يصبح حيوان نسيناه ثلاثين عاماً فجأة «تراثاً» نستعيده، بينما يذوب التراث الحقيقي للشعب السوداني بين الفقر والاقتتال؟
المفارقة تكمن في التفاصيل، فكيف ستستعيد الدولة حيواناً تحتاج رعايته لإمكانات غير متوفرة حتى لمواطنيها؟
ولكن دعونا نتساءل.. إذا كان هذا الوحيد القرن بهذه الأهمية، فلماذا لم يطالب به أحد طوال هذه السنوات؟ هل لأن أحداً لم يقرأ الصحف الأمريكية فاكتشف فجأة أنّ «إنجاليفو» ما زال حياً؟ أم لأن المسؤولين، بعد أن أفلسوا في كل الملفات، قرروا أن يبدعوا في ملف لا يحتاج إلى شيء سوى جرعة من العار؟
وهل يعرف هؤلاء أن «القرنتية» لو عادت إلى السودان، فلن تجد ما تأكله؟ فالبلد الذي يعجز عن إطعام أطفاله في دارفور والخرطوم، كيف سيطعم حيواناً يحتاج إلى طنٍّ من العلف يومياً؟ أم أنهم سيخصصون له ميزانية «أصل قومي» بينما المواطنون يأكلون الفتات؟
والسخرية تكتمل عندما نسمع أنّ الحكومة تريد «تعويضاً» عن هذا الكنز الوطني! يا تُرى، كم تساوي الـ«قرنتية» في سوق التراث العالمي؟ وهل ستدخل أمواله في جيوب المسؤولين، أم ستُخصص لشراء علف للشعب الجائع؟
الأكيد أنّ أحداً لن يسأل، لأن منطق الدولة يقول، إن كل شيء قابل للبيع، حتى الكائنات المهددة بالانقراض… إلا كرامة الشعب، فقد انقرضت بالفعل ولم يسدد ثمنها أحد.
الحكومة التي عجزت عن حماية أراضيها وأنهارها ومواطنيها، تكتشف فجأة أنها حارسة أمينة لوحيد القرن! وكأنما وجدت في هذه القضية مهرباً من ملفات الفساد والانهيار الاقتصادي. وبينما تغيب المليارات في جيوب الفاسدين، تُنفق الدولة وقتها وجهدها على «قرنتية» قد تبلغ تكلفة إعادتها ميزانية عام كامل لمستشفى.
والسؤال الأكثر إحراجاً: ماذا لو عاد «إنجاليفو» حقاً؟
هل سيحصل على تأمين صحي أفضل مما يحصل عليه مواطنونا؟
أم سيصبح رمزاً للسلام في بلد يموت أطفاله جوعاً؟
العجيب أن المسؤولين يصرّون على «حماية التراث»، بينما يتجاهلون تراثاً حياً يتمثل في شعب يناضل يومياً للبقاء. فلو كانت «القرنتية» تستحق كل هذا الاهتمام، فكم أجدى أن يكون للمواطن السوداني؟
في النهاية، قد يكون الأفضل ترك «إنجاليفو» حيث هو، ففي أمريكا على الأقل سيحظى بما لن يحصل عليه في وطنه الأصلي.. الطعام، الأمن، والرعاية. أما نحن، فسنستمر في البحث عن تراثنا الضائع… تحت أنقاض الفساد والإهمال.
لكن لا بأس.. فطالما أن «إنجاليفو» سيعود، فربما نستطيع إرسال بعض المسؤولين مكانه إلى أمريكا.. كـ«تراث وطني فريد» أيضاً، لحين افتتاح المتحف القومي مجدداً. فنستبدل حينها سخيناً بقار.
اتركوه هناك يا سادة.. فهو هانئ ومطمئن.
أما الضحك فهو مباح هاهنا.. فالدولة قد حوّلت كل شيء إلى نكتة بالفعل.
شارك المقال