الفتنة من تحت العمامة: ميثاق نيروبي والصراعات الداخلية في السياسة السودانية

18
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

 • تعيش الساحة السياسية السودانية فترة حرجة يتخللها انقسام عميق داخل صفوف القوى السياسية والعقائدية، حيث باتت الصراعات الداخلية تعرقل جهود الإصلاح والتجديد. وفي هذا السياق، برز ميثاق نيروبي كخطوة محاولة لتجاوز الخلافات وإعادة رسم ملامح الوحدة الوطنية، لكن الواقع يشير إلى أن التحديات الحقيقية لا تكمن في الاختلافات الخارجية فحسب، بل تتغلغل في عمق القيادة نفسها، كما أشار جلال الدين الرومي بقوله:

«الفتنة تخرج من تحت العمامة لا من جرة النبيذ».

تنبع هذه المقولة من إدراك أن الانقسام والفتنة غالبًا ما يكونان نتيجة لصراعات داخلية بين القيادات، حيث يتحول التنافس على السلطة إلى مصدر للتشتت والتناحر. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة النظر في الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي السوداني، وسعي حقيقي نحو إصلاح هيكلي يمهد الطريق لبناء سودان ديمقراطي يستند إلى الوحدة والعدالة.

ميثاق نيروبي: أمل التجديد والتحول السياسي

في وقت كانت البلاد تبحث عن معادلة للتوازن والاستقرار، برز ميثاق نيروبي كخطوة استراتيجية تهدف إلى:

• تعزيز الحوار الوطني:  فتح قنوات اتصال بين مختلف الأطراف السياسية لتجاوز الخلافات القديمة وتوحيد الصف الوطني.

• إعادة الهيكلة السياسية: محاولة لإصلاح الهياكل التنظيمية داخل الأحزاب وتحويل التركيز من التناحر الشخصي إلى العمل الجماعي من أجل مصلحة الوطن.

• تقديم رؤية مستقبلية:  وضع خارطة طريق للتنمية الشاملة تقوم على مبادئ العدالة والشفافية والمساواة بين جميع مكونات المجتمع.

لكن بالرغم من الطموحات الكبيرة التي يحملها الميثاق، تظل الفجوات والانقسامات داخل الأحزاب العقائدية – مثل حزب الأمة القومي، والاتحادي الديمقراطي الأصل، حجر عثرة رئيسي في طريق التنفيذ الفعّال لمبادئه.

الصراعات الداخلية: من تحت العمامة تخرج الفتنة

يشير جلال الدين الرومي في مقولته إلى أن مصدر الفتنة لا يكمن في المعالم الخارجية الظاهرة، بل ينبع من داخل صفوف القيادة التي يفترض بها أن تكون نموذجاً يحتذى به. وفي السياق السوداني:

• الصراعات القيادية: تتصارع الفصائل داخل الأحزاب على النفوذ والسلطة، مما يفضي إلى تفكك الرؤية الموحدة وانحراف المسار السياسي.

• التنافس على السلطة: أدى التنافس الحاد بين القيادات إلى انقسام الآراء واتخاذ قرارات متضاربة تضعف من قدرات الأحزاب على مواجهة التحديات الوطنية.

• تآكل الثقة الشعبية:  عندما تتناقض الأقوال مع الأفعال، يفقد المواطن ثقته في قادته، مما يخلق بيئة خصبة للفتنة والانقسام الداخلي.

هذه الديناميكية تعكس حقيقة أن القادة الذين يتقلدون المسؤولية يجب أن يكونوا رمزاً للوحدة والتضامن، وليس مصدرًا للانقسام والتناحر.

الانقسامات داخل القوى السياسية السودانية

لقد شهدت السنوات الأخيرة تفككاً واضحاً في صفوف الأحزاب العقائدية:

• حزب الأمة القومي:  على الرغم من تمسكه بمبادئ معينة، إلا أن الانقسامات الداخلية أدت إلى ضعف الأداء السياسي وزعزعة الاستقرار داخل الحزب.

• الاتحادي الديمقراطي الأصل:  يعاني من تنازع داخلي بين التيارات المختلفة التي تسعى لتجسيد رؤية متباينة عن مستقبل الحزب والسياسة السودانية.

• المؤتمر الوطني: بالرغم من تاريخ الحزب الطويل في صراع من أجل الاستقلال والتنمية، إلا أن الصراعات الشخصية والصراعات على السيطرة قد أعاقت تقديم رؤية موحدة تخدم المصلحة الوطنية.

يُظهر هذا الواقع أن الانقسامات الداخلية ليست مجرد خلافات على السياسات، بل هي تعبير عن فشل القيادة في تجسيد القيم والمبادئ التي يجب أن تحكم المشهد السياسي.

كيف يمكن للسودان الخروج من ما بين المطرقة والسندان؟

لمواجهة هذا التحدي الجوهري، يحتاج السودان إلى مجموعة من الإجراءات الاستراتيجية:

• تعزيز ثقافة الحوار والشفافية:  يجب على الأحزاب السياسية فتح قنوات حوار شاملة تسمح بالتعبير عن مختلف الآراء دون اللجوء إلى النزاعات الشخصية. إن خلق بيئة تحترم مبادئ الشفافية والمساءلة سيسهم في تقوية الثقة بين القادة والمواطنين.

• إصلاح الهياكل القيادية:  يتطلب الأمر إعادة هيكلة الأحزاب وإعادة النظر في توزيع السلطة داخلها بحيث يتم التركيز على مصلحة الوطن بدلاً من المصالح الشخصية. ويستلزم ذلك تبني آليات جديدة لحل الخلافات بصورة بناءة.

• التأكيد على الوحدة الوطنية:  ينبغي على جميع القوى السياسية أن تضع الوحدة الوطنية فوق أي اختلافات حزبية. التعاون بين الأحزاب المختلفة وتكوين تحالفات استراتيجية يمكن أن يكون حجر الأساس لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي.

• تشجيع المشاركة المجتمعية:  تعزيز دور المجتمع المدني والإعلام المستقل في مراقبة العمل السياسي يمكن أن يسهم في الحد من التجاوزات والممارسات التي تؤدي إلى الفتنة. مشاركة المواطنين في صنع القرار تعزز من شعورهم بالانتماء وتقلل من فرص التلاعب السياسي.

• تبني رؤية تنموية شاملة: يجب أن يركز القادة على قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد، مما يمنح الشعب أملاً حقيقياً بالمستقبل ويحول دون تركيز الصراعات على مسائل السلطة فقط.

• متطلبات بناء سودان ديمقراطي مستدام: لا يمكن بناء سودان ديمقراطي على أساس المصالحة بين طرفين متورطين في القتل والقمع، بل يجب أن يكون الحل شاملًا بمشاركة القوى المدنية وأهل الضحايا الحقيقيين. إن إشراك جميع مكونات المجتمع في عملية الإصلاح والمصالحة الوطنية يضمن تحقيق العدالة وبناء أساس قوي للديمقراطية.

يظل السودان اليوم في مفترق طرق بين الأمل المستمد من ميثاق نيروبي والصراعات الداخلية التي تعصف بالمشهد السياسي. إن مقولة جلال الدين الرومي تُذكرنا بأن الفتنة تنشأ من داخل القيادة نفسها، مما يستدعي إصلاحاً جوهرياً يعيد الثقة ويعزز الوحدة الوطنية. عبر تبني نهج حواري وإصلاح الهياكل القيادية والتركيز على مصلحة الوطن، يمكن للسودان أن يخرج من مآزقه الحالي ويتجه نحو مستقبل أكثر استقراراً وتنميةً، يتجاوز ما بين المطرقة والسندان لصالح مصلحة الشعب بأسره. أي اتفاق أو ميثاق لا يتطرق لمعالجة العدالة الاجتماعية يظل ناقصًا وغير قادر على تحقيق الاستقرار الحقيقي؛ إذ تُعد العدالة الاجتماعية الركيزة الأساسية لتماسك المجتمع وتحقيق التنمية الشاملة. بهذه الإجراءات الاستراتيجية الشاملة، يمكن للسودان أن يخرج من ما بين المطرقة والسندان ويتجه نحو مستقبل أكثر استقراراً وعدالة يخدم الشعب بأسره.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *