• في خضم النزاعات السودانية المتصاعدة، يتصدّر المشهد خطاب يحمّل الظلم والتهميش لمناطق أو قبائل بعينها، وكأنّ الشمال وحده رمز العنصرية، أو أن الغرب دائماً ضحية. هذا التوصيف اختزالي ومضلل، لأنه يُبرئ الجاني الحقيقي: فالعنصرية ليست جغرافيا، بل سلوك منحرف يمكن أن يصدر عن أي فرد، بغض النظر عن أصله.
في شمال السودان، وُجد على مرّ التاريخ مناضلون ومفكرون وفنانون واجهوا الظلم، وانحازوا لقيم العدالة. شاركوا في الثورة، وكانوا في الصفوف الأمامية، كما في مواكب عطبرة وبورتسودان. هؤلاء لا يجوز اختزالهم في كليشيه «دولة ٥٦»، ولا يصح تحميلهم وحدهم إرث دولة فاشلة صنعها المستعمر، وكرّستها حكومات وطنية لاحقة.
في المقابل، ليس كل من ينتمي للهامش ضحية بالضرورة. فبين أبناء دارفور والشرق والجنوب أيضاً من استغلّ قضايا التهميش لتبرير العنف والنهب. هناك عنصريون ومجرمون من كل الأقاليم. لذا، فالمسألة ليست موقعاً جغرافياً، بل وعي وسلوك.
إن نقل الحرب إلى الشمال ليس نضالاً، بل رد فعل تغذيه رواسب الانتقام، ويجعل من فقراء الشمال أهدافاً لصراع لا شأن لهم به، هذا ظلم معكوس يعيد إنتاج الأزمة، فمعظم الشماليين لا يملكون إلا الأرض والفأس، ويتقاسمون الفقر مع باقي أطراف السودان.
أما مفهوم «دولة ٥٦»، فهو اختزال لدولة بنيت على اختلالات بنيوية ورثناها عن المستعمر، ولم تُصلحها الحكومات المتعاقبة. لم تكن حكراً على الشمال، بل شارك فيها من نال حظاً مبكراً من التعليم. والظلم التنموي طال الشرق والجنوب والغرب، كما طال الشمال أيضاً.
إن العدالة لا تتحقق بالتعميم أو بتوزيع التهم على الأقاليم، بل بمحاسبة الأفكار والمواقف. المؤتمر الوطني حزب جماعة الإنقاذ مثلاً، تنظيم جمع أتباعاً من كل الأقاليم، لا من الشمال وحده. الانتماء فيه كان فكرياً لا جغرافياً.
كما أن أهل دارفور ليسوا ملائكة، وأهل الشمال ليسوا شياطين. والتخلف لا يخص منطقة دون أخرى، بل يرتبط بضعف الوعي، وسوء التربية، وغياب الدولة. الحل ليس في خلق أعداء جدد، بل في بناء وعي نقدي، ومشروع وطني يتجاوز الانتماءات الضيقة.
علينا أن نفهم «دولة ٥٦» كمشكلة سياسية واجتماعية، لا كهوية مناطقية. الطريق للإصلاح يبدأ بتحرير الفكر من الطائفية والشللية، وببناء دولة مواطنة تنصف الجميع. فإما أن ننهض من تحت الركام، أو نعيد إنتاج المأساة بأسماء جديدة.