
د. حاتم محمود عبدالرازق
لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني
تمهيد
• في عالمٍ يتسارع فيه الإيقاع نحو الرقمنة، لم تعد النقود ورقية الملمس، ولا البنوك وحدها حافظةً للقيمة أو وسيطًا للتحويل. فقد بزغت العملات الرقمية كأحد أبرز التحولات المالية في القرن الحادي والعشرين، مثيرةً في آنٍ واحدٍ الإعجاب والقلق، الطموح والخشية، لا سيما في دولٍ أنهكتها الأزمات الاقتصادية، كالسودان.
من أين بدأت الحكاية؟
انبثقت فكرة العملات الرقمية من رحم الحاجة إلى نظامٍ ماليٍّ لا مركزيٍّ يتحرر من هيمنة البنوك والحكومات. وفي عام 2009، ظهرت أول عملة رقمية في التاريخ، وهي “البيتكوين”، من ابتكار شخص أو مجموعة عُرفت باسم ساتوشي ناكاموتو.
وقد مثّلت هذه العملة ثورةً في مفهوم المال، إذ اعتمدت على تقنية سلسلة الكتل (Blockchain) التي تتيح توثيق المعاملات ومراجعتها دون الحاجة إلى وسيطٍ مركزي.
ثم توالى ظهور مئات العملات الأخرى مثل إيثريوم ولايتكوين وريبل، ودخلت في مجالاتٍ متنوعة تراوحت بين الاستثمار والتحويل الإلكتروني، وصولاً إلى الاستخدامات غير المشروعة التي غذّاها غياب الرقابة وصعوبة التتبع.
ماهية العملات الرقمية
العملات الرقمية هي وحدات إلكترونية ذات قيمة مالية، تُستخدم في البيع والشراء أو التحويل أو الادخار أو الاستثمار، وتنقسم بوجهٍ عام إلى نوعين:
1. العملات المركزية (CBDCs): تصدرها البنوك المركزية وتخضع لتنظيم الدولة، مثل “اليوان الرقمي” الصيني.
2. العملات اللامركزية (المشفرة): مثل “بيتكوين” و“إيثريوم”، لا تصدرها جهة حكومية، وتعتمد على شبكةٍ موزعة من الحواسيب في توثيق المعاملات.
وتتسم العملات المشفرة بخصائص مميزة: اللامركزية، الشفافية، صعوبة التزوير، والقدرة على تجاوز الأنظمة المصرفية التقليدية.
السودان والعملات الرقمية: واقعٌ يتقدّم على القانون
رغم عدم اعتراف بنك السودان المركزي بالعملات الرقمية كوسيلةٍ مشروعةٍ للتعامل، فإنّ المؤشرات الميدانية تُظهر تنامي الاهتمام بها في الأوساط التقنية والشبابية، وفي مجالات الاستثمار الرقمي والعمل الحر وتمويل المشاريع الناشئة.
ويبدو هذا التوجه انعكاسًا لأزمة الثقة في النظام المالي التقليدي، وتراجع قدرة المؤسسات المصرفية على مواكبة التحولات العالمية في ظل القيود الاقتصادية المفروضة على البلاد.
غير أن هذا النشاط ما زال يتحرك في منطقةٍ رمادية قانونيًا وتنظيميًا، الأمر الذي يجعله عُرضةً للاستغلال، ويحول دون أن تستفيد الدولة من فوائده أو تُحكم السيطرة عليه.
مضاربات رقمية وأرباح مذهلة.. وخسائر قاسية
تتسم العملات المشفرة بتقلباتٍ سعريةٍ حادة. فقد قفز سعر “بيتكوين” من بضعة سنتات إلى عشرات الآلاف من الدولارات، ما أغرى المستثمرين بأرباحٍ خياليةٍ في فتراتٍ وجيزة.
لكن الوجه الآخر لهذه المغامرة كان مروّعًا؛ إذ خسر كثيرون مدخراتهم بفعل انهيارات السوق أو الاحتيال الإلكتروني أو سوء التقدير. فالطمع، مقترنًا بضعف الوعي المالي، يظلّ من أكبر المخاطر في هذا الميدان.
العملات الرقمية والجريمة المنظمة
غياب التنظيم وضعف الرقابة جعلا من العملات المشفرة بيئةً مثاليةً لارتكاب الجرائم العابرة للحدود، مثل:
غسل الأموال وتمويل الإرهاب
تجارة المخدرات والأسلحة عبر الإنترنت المظلم
الاحتيال المالي باستخدام منصات وهمية
وفي السودان، تتضاعف هذه المخاطر بسبب هشاشة البنية التحتية للرقابة، ونقص الكفاءات التقنية في أجهزة إنفاذ القانون.
الفراغ التشريعي: خطر أكبر من العملات نفسها
حتى اليوم، لا يوجد إطارٌ تشريعيٌ سودانيٌ خاصٌ ينظم التعامل بالعملات الرقمية، كما لا توجد جهةٌ رقابيةٌ متخصصة تتابع تطوراتها أو تحدد مسؤوليات الأطراف المتعاملة بها.
وتظل القوانين السارية، كقانون جرائم المعلوماتية أو مكافحة غسل الأموال، قاصرةً عن مواكبة التعقيدات التقنية التي أفرزتها البلوك تشين، مما يخلق فراغًا قانونيًا خطيرًا قد يُستغل لأغراض غير مشروعة.
من التحذير إلى التدبير
ليس الرهان في المنع المطلق، بل في التنظيم الواعي. فالعالم يتجه نحو الرقمنة المالية، ومن الحكمة أن يواكبه السودان بسياساتٍ متوازنةٍ تحمي المواطن وتستفيد من الفرص.
ومن أبرز الخطوات المقترحة:
1. سنّ تشريعٍ وطني خاص بالعملات الرقمية، يحدد المسموح والمحظور، ويوفر حمايةً قانونيةً للمتعاملين.
2. إنشاء وحدةٍ متخصصة في الجرائم الرقمية تضم محققين وتقنيين مدربين على تتبّع العملات المشفرة.
3. تأهيل القضاة ووكلاء النيابة والشرطة عبر برامج تدريبية متخصصة في الجرائم المالية الرقمية.
4. تعزيز التعاون الدولي مع الإنتربول ووحدات العمل المالي (FATF) والمنظمات الإقليمية ذات الصلة.
5. إطلاق حملات توعوية تستهدف الشباب والمستثمرين، تشرح بأسلوبٍ مبسطٍ الفرص والمخاطر.
خاتمة: المستقبل لا ينتظر
لقد تجاوز العالم مرحلة التساؤل عن جدوى العملات الرقمية، وأصبح السؤال اليوم: كيف نتعامل معها؟
إنها ليست ترفًا تقنيًا، بل تحولٌ اقتصاديٌّ عميق يفرض نفسه.
فإن أحسَنّا التعامل معه بالتنظيم والوعي، أمكن أن نفتح به بابًا للأمل في اقتصادٍ أكثر شمولًا وانفتاحًا.
أما إذا تُرك بلا رقابة ولا إطار قانوني، فقد يتحول إلى هاويةٍ ماليةٍ وأمنية تهدد السيادة النقدية للدولة.
إن المستقبل الرقمي قدرٌ لا يمكن تجنبه، ومن الحكمة أن نتهيأ له لا بالخوف، بل بالفهم والتنظيم.
فلننتقل من التحذير إلى التخطيط، ومن الغموض إلى الرؤية .. فالسودان يستحق أن يدخل العصر الرقمي بوعيٍ وسيادةٍ واقتدار.
شارك المقال