العدالة الانتقالية

173
د. ندى صلاح

د. ندى صلاح بيومي

محامية ومستشارة قانونية

•  تكملة لما سبق في الأسابيع الماضية عن العدالة الانتقالية، نتحدث هنا عن:-

مميزات العدالة الانتقالية

تقوم العدالة الانتقالة على مجموعة من المميزات الاتية:-

1. التدرج: حيث يحتاج تنفيذها إلى مراحل، بحيث لا يمكن تطبيق العدالة بشكل مباشر على مجتمع اعتاد التهاون في حقوق الضحايا وذوي الحقوق، فلا يمكن تأسيس هذه العدالة إلا من خلال تحول المجتمع تدريجيًا إلى مجتمع يعلي فكرة الحقوق ويصنعها. 

2.  البعد الزمني: 

إن تصحيح مسار العدالة يتطلب إجراءات معقدة في مؤسسات وهياكل الدولة، وهذه التغيرات قد تتقاطع مع عوامل مستقرة في جذور الدولة؛ كالفساد وثقافة الشعب، وقد تواجه عقبات كبيرة، إذ تتطلب قدرًا من التخطيط الجيد، لرسم المسارات التي ستتبعها العدالة الانتقالية لكي تحقق الهدف منها.

3.  مبدأ التعاون والتشارك في إحقاق العدالة: إن بناء المجتمعات بعد عصور استبداد أو حروب ونزاعات، يحتاج لتعاون وتنوع الأفكار، وتحمل الجميع مسئولية النتائج، والمهارة هنا تكمن في كيفية إشراك الجميع واستيعابه. 

خصائص العدالة الانتقالية

1- تركز العدالة الانتقالية على تركة جرائم حقوق الإنسان، في حين أن للعدالة الانتقالية أهدافًا مهمة تمثل التطلع للأمام، مثل بناء الثقة بين الضحايا والمواطنين والمؤسسات، إلا أن هذه الآليات تسعى إلى المحاسبة على جرائم حقوق الإنسان التي ارتكبت في الماضي.

2- لا تدعو العدالة الانتقالية إلى الأثر الرجعي مهما كلف الأمر، ويجب أن تكون المطالبة بالعدالة الانتقالية متوازنة مع الحاجة إلى السلم والديمقراطية وسيادة القانون.

3- إجراءات العدالة الانتقالية نسيج متكامل، ومن ثم لا يجوز النظر إلى بعضها مستقلًا عن البعض الآخر.

4- تضع العدالة الانتقالية الأولوية لنهج مستند إلى الضحايا، ولذلك فإن المطالبة بالعدالة الانتقالية ليست شيئًا مطلقًا، بل يجب أن تتم موازنتها بالحاجة إلى السلم والديمقراطية والتنمية والعدالة وسيادة القانون.

5- إن العدالة الانتقالية نتاج للخطاب الدولي حول حقوق الإنسان، وتشكل جزءًا منه، غير أن هناك ثلاث خصائص مهمة في تمييز مفهوم العدالة الانتقالية عن مفهوم حقوق الإنسان واستقلاله بذاته:

الأول: التركيز على الشمولية في التعامل مع إرث الانتهاكات، فأهداف وأدوات العدالة الانتقالية تتجاوز المحاسبة المعروفة على انتهاكات حقوق الإنسان واستقلاله بذاته. 

الثاني: الأولوية التي يحظى بها التوازن والإدماج، فالعدالة الانتقالية لا تسعى إلى عدالة بأثر رجعي بأي ثمن، ولا تركز على المحافظة على السلام على حساب حق الضحايا في العدالة، بل تركز عوضًا عن ذلك على إرساء توازن بين الأهداف على اختلافها وتنافسها.

الثالث: التركيز على منهج مفيد للضحايا للتعامل مع ماضٍ عتيق، سواء من حيث مساره أو نتائجه.

وفي الجانبين النظري والعملي، تهدف العدالة الانتقالية إلى التعامل مع إرث الانتهاكات بطريقة واسعة وشاملة، تتضمن العدالة الجنائية، وعدالة إصلاح الضرر، والعدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية.

 أهداف العدالة الانتقالية

وضع حدٍّ لجرائم حقوق الإنسان التي تتم ممارستها، والتحقق فيها وتحديد المسئولين ومعاقبتهم، ومنح تعويض للضحايا، ومنع ارتكاب هذه الجرائم في المستقبل، وإعادة بناء العلاقات بين الدولة والمواطن، وتقرير السلام والديمقراطية، وتشجيع المصالحة الفردية والوطنية.

وعلى ذلك يمكن القول إن فلسفة العدالة الانتقالية تستند إلى تصور سياسي قوي لمفهوم الحق، وإلى تصور حقوقي لمفهوم العدالة، وإلى تصور فلسفي حداثي. 

مفهوم العدالة

هذه التصورات مجتمعة ومتكاملة تنمي نحو المستقبل استراتيجيات مؤسسانية قوية، من أجل مواجهة كل أنواع الماضي والعنف السياسي أو المسلح، انطلاقًا من فرضية أساسية تعتقد أن السير نحو المستقبل يقتضي تصفية شاملة ونهائية لكل نزاعات الماضي التي لم تتم بعد تسويتها بالطرق السلمية أو الديمقراطية.

في هذا السياق الدقيق، يحيل مفهوم العدالة الانتقالية إلى سياسات واستراتيجيات دولية ووطنية لمواجهة الماضي، رغم أن لكل حالة وضعها الخاص، وأن ليس ثمة نماذج عالمية حول كيفية مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية. ومع ذلك، توجد مبررات وعوامل قوية لمواجهة كل أشكال الماضي السياسي العنيف.

من هذه المبررات

المبرر الأول: تقوية الديمقراطية بأنها لا يمكن أن تقوم على أساس أكاذيب… ويتم ذلك بشكل كبير من خلال إرساء المحاسبة، مثل مكافحة الإفلات من العقاب، ومن خلال بناء ثقافة ديمقراطية.

المبرر الثاني: الواجب الأخلاقي في مواجهة الماضي، حيث إن نسيان الضحايا والناجين من الفظائع يعد شكلًا من أشكال إعادة الإحساس بالظلم والإهانة.

المبرر الثالث: من المستحيل تجاهل الماضي، فهو دائمًا يطفو على السطح، لذلك من الأفضل إظهاره بطريقة بناءة وشفافة.

المبرر الرابع: لمنع ذلك في المستقبل، من المهم مواجهة الماضي دون ارتكاب أعمال شنيعة في المستقبل.. وبإمعان النظر في هذا الأساس الفلسفي للعدالة الانتقالية ومنحه شرعية دولية متزايدة، نلاحظ ما يلي:

أولًا: إن العدالة الانتقالية ليست إلا مجرد ملفات للانتهاكات جاهزة لتصفيتها حقوقيًا أو قضائيًا بعجالة، بمعنى آخر لا يتعلق الأمر بتسويات سريعة ومغلقة الملفات آنية وطارئة. إن العدالة الانتقالية ليست مطلبًا قضائيًا عاديًا اكتسب صيغة دولية، وليست مجموعة مطالب حقوقية، بل مجموعة من المقتضيات المعقدة التي يتكامل فيها المطلب القضائي والتشريعي، والسياسي والحقوقي والإنساني. 

ثانيًا: يتجاوز مفهوم العدالة الانتقالية حيز الحقوق كجبر للضرر أو تعويض مادي للضحايا، إلى كونه شرطًا دوليًا لإنجاح كل مشاريع التنمية البشرية وحيازتها لدعم أممي.

هذا ما تثبته وثيقة أممية خاصة بمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، جاء في تصديرها ما يلي: لا سبيل لنا للتمتع بالتنمية دون أمن، ولا بالأمن دون التنمية، ولن نتمتع بأي منهما دون احترام حقوق الإنسان.

ثالثًا: في السنوات الأخيرة بشكل خاص، أصبحت قضايا إقرار العدالة الانتقالية ذات العلاقة بملفات العنف السياسي، الاختطاف والتعذيب، الاختفاء القسري، شأنًا دوليًا على نطاق واسع ومتزايد، ويتجاوز السياسات المحلية الخاصة بكل دولة على حدة، وهناك اليوم حضور واسع وقوي للمنظمات الأممية والحكومية وغير الحكومية في تدبير السياسات الوطنية في هذا الموضوع.

رابعًا: تعتبر حركة العدالة الانتقالية عبر العالم اليوم، إدانة دولية قوية ومناهضة عالمية واسعة النطاق، لكل أشكال الماضي العتيق، الذي انبنى على الاستعمار أو الحروب الأهلية أو انتهاك حقوق الإنسان في الحياة والحرية والعدالة، أو العنف السياسي بأنواعه المختلفة، وهذا يعني بوضوح أنه بعد آلاف من السنين من إفلات الإنسان من العقاب على لا إنسانيته تجاه أخيه الإنسان، أصبح من المعلن بصورة مشتركة في أنحاء العالم أن جرائم الحرب، وغيرها من الانتهاكات الواسعة والمنتظمة لحقوق الإنسان، ما عاد يمكن تجاهلها ببساطة عند انتهاء الحرب أو النزاعات.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *