العدالة الانتقالية

230
د. ندى صلاح

د. ندى صلاح بيومي

محامية ومستشارة قانونية

•  تكملة لما بدأناه في الأسبوع السابق عن العدالة الانتقالية وإجراءاتها غير القضائية، نتحدث هنا عن: 

المصالحة الوطنية

فالمصالحة شكل من أشكال العدالة الانتقالية، التي تكون ضرورية لإعادة تأسيس الأمة على أسس شرعية قانونية وتعددية وديمقراطية.

 ويعود تعبير المصالحة الوطنية إلى الزعيم الفرنسي التاريخي «شارل ديجول»، كما استخدم «مانديلا» هذا المفهوم في جنوب إفريقيا عندما كان قابعاً في السجن، إذ رأى أن من واجبه أن يضطلع بنفسه بقرار التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام، ويطمح إلى مصالحة وطنية. غير أن العفو العام لا يعني الصفح بالضرر نفسه الذي لا تعنيه التبرئة أو العفو، والشخص الوحيد الذي يمتلك صلاحية العفو هو الضحية، ولا يحق لأي مؤسسة أن تتدخل كطرف ثالث؛ فالمصالحة الوطنية لا يمكن أن تؤتي ثمارها بدون تلازمها مع العدالة الانتقالية، إذ إن تطبيق ثقافة المساءلة بدلاً من ثقافة الإفلات من العقاب، يعطي إحساساً بالإمان لقطاعات عريضة من المجتمع بشأن ملامح الدولة الجديدة، ويوجه تحذيراً لمن يفكر في ارتكاب مثل هذه التجاوزات في المستقبل؛ بما يجعل الأيدي الحاكمة مرتعشة في حالة الإقدام على اتخاذ قرار ما. فمواجهة الماضي من أهم الأسس التي تقوم عليها المصالحة الوطنية، فتجاوزها سيزيد من تقيد الانتقالية في البلاد، فليس من الواقع أن تتوقع تلاشي ذكريات الماضي بمجرد حدوث العملية الانتقالية. 

والتعامل مع الماضي أمر ضروري لتحقيق مصالحة ذات معنى، فضحايا القمع وأسرهم لهم الحق في معرفة حقيقة ماذا حدث، أو لماذا حدث، ومن المسئول عنها؛ لأن معرفة ما حدث في الماضي قد يساعد الضحايا وذويهم على التكيف مع معاناتهم، وهذه المكاشفة قد تمكنهم من التقدم إلى الأمام مع الطرف المسئول عن الانتهاكات لتحقيق المصالحة. 

 التعويض وجبر الضرر

 في سياق العدالة الانتقالية، وأياً ما كان الشكل المعتمد لتحقيقها، فإن برامج التعويضات والجبر تهدف لتحقيق نوع من الرضا لدى الضحايا، أو التخفيف من الآثار التي لحقت بهم جراء انتهاك حقوقهم؛ وبما يعني استرجاع الحرية والحقوق القانونية والوضع الاجتماعي والحياة الأسرية والجنسية، والعودة إلى مكان الإقامة، واسترداد العمل، وإعادة الممتلكات أو كذلك «التعويض»، باعتباره الصورة الغالبة في مجال جبر الضرر بصفة عامة. حيث إن منح التعويضات بعد آلية لتخطي الماضي وتحقيق السلم الاجتماعي، علاوة على كونه عنصراًِ تكميلياً مهماً لعمل المحاكم ولجان الحقيقة، وكذلك يدعم بث الثقة في النفوس باتجاه مؤسسات الدولة. وواقعياً لا يتحقق رضا الضحايا بشكل واحد من التعويضات؛ وتكون هناك تطلعات بتنوع صوره، وبالفعل توازن برامج التعويضات ذات الصلة بين الشكل المادي والرمزي للجبر، كما تراعي حقوق الفرد والمجموعات. 

ومن أمثلة الشكل المادي للتعويضات في الدول بعد انتهاء الصراعات، استعادة حقوق الملكية التي فقدت، أو التعويض على فقدانها عندما تتعذر استعادتها؛ والمقابل النقدي أو الصكوك القابلة للتداول، أو خدمات معينة كالتعليم والصحة والإسكان. ومن أمثلة التعويضات الرمزية أو غير المالية؛ تقديم الاعتذارات الرسمية عن الإضرار بالسمعة والكرامة، ورد الحقوق القانونية للضحايا، وتغيير أسماء الأماكن العامة، وتخصيص أيام للاحتفال بذكري الضحايا الذين قضوا خارج نطاق القانون، وإنشاء متاحف ومتنزهات تكرس ذكرى الضحايا، وإقامة نصب تذكارية، وتدابير إعادة تأهيل الضحايا، واستعادة حسن سمعة الضحايا. 

ويتم تصميم برامج التعويض في سياق العدالة الانتقالية بطرق عدة؛ منها الصناديق الوطنية التي تتمتع بشخصية قانونية وموازنة مالية مستقلة، أو تتحدد مصادر تمويلها بموجب القانون المنشئ لها، وتعتبر أصولها من الأموال العامة. وتسعى لتعويض الخسائر المادية التي حاقت بالمتضررين؛ كتحمل نفقات العلاج أو ضياع المكتسبات نتيجة فقد وظيفة أو عمل تجاري. 

 ويمكن للجان الحقيقة أو لجنة تقصي الحقائق، أن تقدر الضرر، ثم تقدر التعويض المناسب؛ والضرر هنا على أنواع، فقد يكون ضرراً مادياً أو جنائياً، ولكن إذا رفض المتضرر قبول التعويض وطالب بالجانب الجنائي، فمن حقه رفع الدعوى القضائية للمطالبة بالانتصاف من منتهكي حقوق الإنسان. 

وقد نصت المبادئ الأساسية للأمم المتحدة على توفير العدالة لضحايا الحرب، بقرار صادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 40/ 34 في 29/1/1985م وأعادت التأكيد عليها عام 2005م ضمن مبادئ الحق والانتصاف والجبر لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وقد تعاملت الأمم المتحدة مع مسألة منح تعويضات لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في حالات عدة؛ أبرزها ما نتج عن ضحايا حرب الخليج الأولى من آثار، وقامت لجنة الأمم المتحدة بصرف أكثر من 18 بليون دولار تعويضات لضحايا اجتياح العراق للكويت. 

 المصالحة على أساس العفو

المصالحة المجتمعية تعول على منح العفو، وهو مصطلح مستمد من التعبير اليوناني بمعنى النسيان أو الصفح الشامل. أما قانوناً فيعتمد على معينة بهدف إلغاء إجراءات قانونية أو النتائج المترتبة عليها في جرائم محددة لصالح أفراد أو فئات معينة، ويشمل إعفاء المحكوم عليه من تنفيذ العقوبة كلها أو بعضها، أو استبدال عقوبة بأخرى أخف منها. 

 وتقابل الفكرة عند البعض بالاستهجان ويرفضونها؛ لاعتقادهم بأن التسامح مع من انتهك حقوقهم هو انتقاص من كرامتهم، وتصادم مع الفطرة البشرية، فمن يستطيع أن يطلب الرحمة للإرهابي الذي قتل طفله؟ ومن يمكنه دعم مؤسسة تمول من قتلوا ابنته؟ فما مبررات العفو في سياق آلية المصالحة المجتمعية؟

سرعة تحقيق السلام

قد تتخذ الدول عقب النزاعات قراراً بتجاوز الماضي والاتجاه نحو المصالحة، لأن الاعتماد على المساءلة الجنائية قد يستغرق زمناً مع استمرار النزاع المسلح أو الاحتقان السياسي وارتكاب مزيد من العنف. وتكون دعوة الخصوم أو الأعداء للتفاوض هي الوسيلة لإنهاء العداوة والخصومة، وتحفيزهم على الانخراط في الانتقال والتحول السلمي نحو الديمقراطية. بعبارة أخرى يكون العفو مقابل السلام؛ ونلمح ذلك في خاتمة الدستور المؤقت لجنوب أفريقيا لعام 1994م. 

ضعف موارد الدولة

قد يكون من المستحيل في النزاعات أو العنف الجماعي مقاضاة الآلاف من مرتكبي الانتهاكات، لضعف إمكانات المؤسسات القانونية، وانهيار قدرات الدولة الاقتصادية، وعدم استطاعتها إجراء محاكمات إلا لعدد محدد من الأشخاص لا سيما الأكثر مسئولية، كما حدث بالنسبة للمحكمة المختلطة لسيراليون. 

هشاشة البيئة الأمنية

قد تضطر السلطات السياسية لدولة نتيجة للأوضاع الأمنية المتردية، منح عفو واسع، أو حصانة للميليشيات، حتى بالنسبة لأخطر الجرائم، في محاولة لتحقيق الاستقرار. على سبيل المثال: تم عفو شامل في سيراليون بموجب اتفاق لومي للسلام عام 1999م. 

أهميته عقب المساءلة

 قد يأتي العفو عقب المساءلة، ليرسخ للمصالحة والسلام، بحساب أن المساءلة لم تُنْهِ الأعمال العدائية، ولم تحقق التوازن السياسي أو استقرار المجتمع. ومن الدول استخدمته السلفادور.

وجود بعض الجناة وهم أيضا ضحايا

 على سبيل المثال في «سيراليون»، «وتيمور الشرقية»، تنظر إلى العديد من مرتكبي الجرائم أيضاً كضحايا. في «سيراليون» أفادت إحدى الدراسات الاسقصائية بأن 80% من النساء المقاتلات تم تجنيدهن قسراً، وكذلك جند الأطفال قسراً.

فكرة العفو في الاتفاقات الدولية

وردت إشارات صريحة لمبدأ العفو في المادة «5/6» من البروتوكول الثاني لعام 1977م، الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1949م. وقد أشارت صراحة إلى أن فكرة العفو يجعلها مطروحة في السياق القانوني الدولي، لا سيما في الحالات التي تكون هي الأداة المناسبة اللازمة لتحقيق الاستقرار  المجتمعي. والمصالحة بشرط عدم تعارض ما يترتب عليها من آثار مع الالتزامات الدولية.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *