
حمدي عباس إبراهيم
مستشار اقتصاد زراعي
• رشح في الميديا خلال الأشهر القليلة الماضية أن اللجنة السيادية العليا لإعادة إعمار ولاية الخرطوم أصدرت قراراً بإيقاف إعادة التعمير في كافة المؤسسات الحكومية وسط الخرطوم. وأصدرت قراراً بديلاً بإنشاء عاصمة إدارية في ذات ولاية الخرطوم، ولكن في مواقع طرفية منها.
هذا القرار أثار الكثير جداً من التساؤلات حول دوافعه، وآليات اتخاذه، وتوقيته من حيث جدول أولويات مرحلة ما بعد الحرب، خاصة في هذا الظرف المتردي جداً في اقتصاد السودان. وكذلك من حيث آليات التخطيط والتنفيذ والإشراف والاستلام. أيضاً من حيث آثاره الاقتصادية والبيئية على المواطن.
معلوم أن رحى الحرب الضروس ما زالت تدور في بعض ولاياته. أي أن حالة الحرب ومستلزمات الحرب المالية العالية، وعدم الاستقرار الأمني والسياسي ما زالت تسيطر على الأجواء. ومعلوم للكافة أنه بدون ذلك الاستقرار الأمني والسياسي لا مجال البتة لأي استثمار أو إعمار كبير ومستدام، أو عمل إنتاجي حقيقي..
كما أن تنفيذ مثل هذا العمل الضخم، حتى لو قبل البعض جدلاً هذا القرار وإنه من أولويات المرحلة، ليحتاج من النواحي الفنية والمالية لدعم خارجي، ولكن ليس من المؤمل إطلاقاً الحصول على مثل هذا الدعم في ظروف السودان الحالية، وبشروط ميسرة وعادلة. بل سيكون، إن حدث ذلك الدعم، زيادة غير منطقية وغير مبررة في حجم ديون السودان الخارجية. فالسودان أصلاً منذ عقود طوال عاجز عن الإيفاء بالتزاماته السابقة نحو المدينين من خارج السودان. حسب آخر تقارير صندوق النقد الدولي، فى أبريل ٢٠٢٥، تبلغ نسبة الدين العام فى السودان ٢٧٢% كأعلى نسبة في الدول العربية. وحجم هذا الدين للبنك
الدولي ١٠٢ مليار دولار. ومؤكد أن هنالك مديونيات أخرى نتيجة لاتفاقيات السلاح خلال الحرب الجارية لم يكشف عنها النقاب، لا من حيث الحجم أو المصدر أو الشروط. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن ذات الجهات العسكرية التي طالبت بتلك القروض، هي من فاوضت ووافقت على شروطها، وغالباً ستتولى التتفيذ والإشراف والاستلام. كل ذلك في حالة تغييب قسري للمراجع العام أو جهة تشريعية مستقله؛ ولكل منهما أدوار ومهام جوهرية في مثل هذه الأعمال المالية والاتفاقيات الدولية.
ولا بدّ من العلم، حسب ما رشح من معلومات شحيحة معممة، أن هذا المخطط هو بناء غابات أسمنتية للعاصمة الإدارية الجديدة، المقرر إنشاؤها (أو تحويل لبعض الوزارات الحالية لتشغل بعض المنشآت القليلة غير المستغلة في أطراف ولاية الخرطوم).
إن تلك الوزارات المراد إنشاء مواقع جديدة لها، أو تحويلها لمواقع جاهزة خالية حالياً، ليست بوزارات إنتاجية بصورة مباشرة، حتى تسهم في رد الديون الخارحية الإضافية بأي صورة من الصور. وأكيد تلك العاصمة الجديدة، والمكونة من أعداد كبيرة من المنشآت الخرسانية، تتطلب بالضرورة بنيات أساسية كثيرة؛ أهمها الطرق المسفلتة، والكهرباء، والمياه، ووسائل الاتصال الحديثة وغير ذلك. وهذه البنيات الأساسية المشار لها هي عين ما تعاني منه العاصمة السودانية حالياً ومدن السودان الأخرى منذ عقود.
ونعتقد أن كل هذا المخطط ما هو إلا (نقل ولصق) لما تم في دولة مجاورة، وأثبت هنالك فشله الذريع في خدمة أغراضه المعلنة؛ وأهمها تقريب الشقة، وتجويد الخدمة للمواطن.
زاوية أخرى لا بدّ من التطرق لها، وهي أن أي تمدد سكني أو خدمي أفقي في أطراف ولاية الخرطوم، سيكون على حساب المناطق الزراعية على ضفة النيل، أو غرب أمدرمان؛ وهذا تكرار لذات الخطأ الذي أدى لإنشاء الكثير من الأحياء الجديدة في تاريخ ولاية الخرطوم، مثل المعمورة والرياض والطائف والمنشية كافوري. بل إنه من أهم مسببات نزوح أصحاب الإمكانات العليا من الولايات للخرطوم.
من ضمن التساؤلات المشروعة بشأن هذا المخطط: هل كان ذلك بناء على عمل جهات فنية مختصة ذات خبرة؟ ما المسببات؟ ومتى نشأت؟
هل كان المخطط المعماري الشامل لوسط الخرطوم؛ والذي قامت به شركة إيطالية بالتعاون مع ثلة من أميز خبراء الهندسة المعمارية في السودان قبل نحو ٣٥ عاماً، أي صلة بهذا التوجه الهلامي الجديد؟ أما زالت مسببات ذاك المخطط القديم ومخرجاته صالحة لزمان ما قبل أو بعد الحرب بكل ما فيه؟
أليس من الأجدى بعد كل تلك العقود أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، أسوة بدول مرت مؤخراً بذات ظروف السودان، وأعني رواندا كمثال فقط؟ ألا يدرك كل إنسان أو قيادي رشيد أن زمان التمدد الأفقي قد طويت صفحاته؟ ألم نسمع بالثورة الإلكترونية واستغلالها في حل الكثير جداً من مشكلات المواطنين الخدمية وغيرها؟
التوجه العالمي الآن – حتى في دول العالم الثالث الناشئة، ولكنها رشيدة – هو التركيز على الخدمات الإلكترونية؛ خاصة للمواطن. لا حاجة لضياع الجهد والوقت، وازدحام حركة المواصلات، وإهدار الطاقة البترولية الشحيحة أصلاً، والصفوف وما يتبعها من بيروقراطية (قاتلة)، ولكن مقصودة، لفتح أبواب الفساد بكل مسمياته.
زيارة الفنيين المختصين (أكرر الفنيين) لأي من دول الخليج؛ مثل السعودية، أو قطر، أو الكويت. أو رواندا، أو غيرها، يؤكد ما أشرنا له، وكيف يمكن لأي مواطن من منزله، أو من مكتبه، أو المنافذ الإلكترونية المتعددة، قضاء كل الخدمات التي تقدمها الدولة بيسر وأمان وسرعة. بل إن الأمر تعدى الخدمات الحكومية، وشمل خدمات القطاع الخاص من مبيعات ومشتريات، ودراسات وتدريب وغير ذلك.
مؤكد أن هذا التوجه الحضاري الحديث، يحتاج بجانب الإرادة (وهي الأساس)، أن يتم كل شيء بيد فنيين محترفين مستقلين ووطنيين حقاً (تخطيطاً وإشرافاً واستلاماً وتشغيلاً وتطويراً).
ومن ناحية الإمكانات، ذات القروض والمصادر المالية التي ستصرف بالصورة التقليدية (المشكوك في نزاهتها) لإنشاء العاصمة الإدارية، يجب أن توجه بصورة علمية ورشيدة وأمينة وشفافة جداً، لتطوير أهم أساسيات الخدمات الإلكترونية، وهي: الكهرباء المستدامة جداً، والإنترنت، والتدريب المستمر. يجب وبكل وضوح التخلي ونبذ ما تكرره قيادات عليا (جداً) أن الإنترنت مجرد مهدد أمني. هذه سباحة عكس التيار العالمي الراشد؛ بل ونبذ مع سبق الإصرار والترصد لأهم وسائل التطور العالمية في كافة مناحي الحياة، وهو ما يشار له بالثورة الإلكترونية وثورة الاتصالات.
القطاع الخاص في الكثير من الدول المتقدمة والناشئة والجادة، يتوجه بعزم وإصرار لتقليص العمل المكتبي التقليدي، ولتخفيض العمالة غير الضرورية حتى في الصناعات. وهنا لا يتخوف البعض، خاصة المستفيدين من النهج الإداري المتخلف، من مسألة تقليص العمالة هذه، إذ إنه بالتدريب الأساسي والمستمر، ومراجعة المناهج العلمية وتوزيع الخدمات في كل ولايات السودان، ما يسمح بفتح المزيد من فرص العمل المفيد لكل الأطراف.
لكل هذا، لا حاجة أبداً لنقل معظم الوزارات والمؤسسات أو المنشآت الحكومية من مواقعها الحالية في وسط الخرطوم. إن الحرص على تنفيذ هذا التوجه الإلكتروني، سيكون أيضاً وبالضرورة مفيداً لكل أهل السودان. سيتم تقديم ذات الخدمات لهم إلكترونياً، دون حاجة للسفر المضني والمكلف للخرطوم. أيضاً يجب التخطيط العلمي المبكر لتنفيذ ذات النهج في كافة الولايات، خاصة المدن الكبيرة. ونكرر ذات المفهوم للقطاعين الحكومي والخاص على السواء.
زاوية أخرى يجب ان لا يتم تجاهلها، عمداً أو قصداً، أغلبية تلك المباني هي أثرية، عمرها أكثر من قرن، ويمكن أن تؤدي ذات مهامها في ذات المواقع، ولكن بتطوير وتحديث آليات وسبل تنفيذ مهامها، لتصبح إلكترونية كما اوضحنا عاليه. علماً أنه ومنذ أكثر من ٣٠ عاماً بدا توجه خجول جداً في الوزارات الاتحادية لإحداث وتفعيل الحكومة الإلكترونية (ولو في التعامل المكتبي بين الوزارات ورئاسة مجلس الوزراء)، ولكن وكالعادة تم خلق الكثير جداً من المعوقات، مما أجهض الفكرة، وما زال (السيرك) سيد الموقف، حتى بين الوزارات المتجاورة في شارع النيل، أو شارع الجامعة.
حتى القرارات والتوجيهات الصورية المكررة في الجانب المالي الحكومي بتحديد إيصالات مالية محددة، يتم التحايل عليها، وأحياناً تزويرها أو تجاهلها. حتى فكرة بنكك وما شابهها تتم محاربتها من منسوبي ذات الأجهزة الحكومية.
إنه الفساد المالي الممنهج. ومن أهم وسائل محاربة هذا الفساد وتلك البيروقراطية القاتلة إلكترونية التعامل المالي الحكومي وغيره، مع سيادة القوانين الرادعة اللازمة على الكل، دون استثناء أو حصانة.
زاوية اخرى لا بدّ من التطرق لها، فمعظم تلك المواقع المراد نقلها من وسط الخرطوم، لها قيمة أثرية تاريخية عالية، يمكن استغلالها لاستقطاب منح مالية من المنظمات العالمية المختصة بالآثار، لأجل أعمال الصيانة لتلك المباني والمحافظة عليها، مع استمرار أداء مهامها بصورة إلكترونية حديثة.
شارك المقال