

مجذوب عيدروس
(آه أي وطن رائع يمكن أن يكون هذا الوطن ، لو صدق العزم وطابت النفوس وقل الكلام وزاد العمل)
الطيب صالح
• في حياة كل كاتب تلعب سنوات الطفولة و الصبا دورا مؤثرا في تشكيل وعيه بالذات, و للإنفتاح علي الآخر.
في الولاية الشمالية بين كرمكول و الدبة كانت سنوات الطفولة – الخلوة و حفظ القرآن الكريم حتي سورة يس- و المدرسة الأولية في الدبة التي جاءها و هو في الثامنة من عمره , و تتجلي في تلك المرحلة مساهمة الأسرة الصغيرة – الوالدة و الوالد- و التي يشير إليها الطيب صالح بأنها تحفظ قصائد المديح و الدوبيت – و بيئة القرية الحافلة بالتنوع العرقي- فالمنطقة تقع في الوسط بين الشايقية و الدناقلة , وعليها تأثير من ثقافة هاتين المجموعتين (المجموعة الجعلية و المجموعة النوبية) يضاف إلي ذلك روافد تعرفها المنطقة من هجرات من غرب السودان :- الهواوير والكبابيش ,الأمر الذي يستفيد منه الطيب صالح في روايته (عرس الزين ) .
يعود الطيب صالح ليكتب في 21/9/1988 من مطار الخرطوم (لا أدري لماذا أنا حزين الأن في هذا المكان ,لقد وقفت علي قبر إنسان عزيز ,أعز إنسان عندي و انقطع أهم خيط كان يربطني إلي هذه الديار ,الحزن يعلو و يخبو و يمتد عبر زمن طويل و يأتي علي أشكال عدة ,و يهجم عليك من حيث لا تحتسب ,لقد صبرت حيث كان يحتم علي ان أبكي ,و بكيت حيث كان يجمل بي الصبر ,لذلك يدهمني الحزن الأن).
الطيب صالح تعلم من بورتسودان ومن إنفتاحه علي الآخر بشقيه :المؤتلف و المختلف.أن ينظر إلي السودان كله نظرة فيها من الشمول و العدل الكثير (لم يكن هؤلاء القوم «يبرحون هذه الديار المترامية الأطراف ,كانوا قانعين بما قسم الله لهم فيها ,و هو كثير ,يزرعون النخل في ديار المحس و»السكوت» و يزرعون الحنطة و الشعير في ديار البديرية و الشايقية و الركابية ,و يزرعون الموز في كسلا و البرتقال و الجوافة في شندي و الذرة في أرض البطانة و القطن في أرض الجزيرة و يجنون الصمغ العربي من الهشاب في كردفان ,يصيدون البقر الوحشي في جبل مرة و الظباء عند تخوم بحر الغزال ,يأكلون سمك النيل الأبيض و البحر الأحمر ,يخرجون الذهب من مكامنه في حلايب و في جبال شنقول ,ثم يتأمل الطيب في وجوه المغادرين في المطار (هذه المرأة الوسيمة من عرب البطاحين دون شك ,و هذه الشلوخ الأفقية علي الخدود الحنطية لابد أنها شايقية من نوري أو تنقاسي و هذا الرجل الأخضر سواده زنجي و سمته عربي ,و هذه المرأة لونها مثل الذهب ,بجاوية لابد من القوم الذين إمتطي المتنبي ناقة من نوقهم حيث خرج هاربا من مصر .
ألا كل ماشية الخيزلى ** فدى كل ماشية الهيذبى
وكل نجاة بجاوية ** خئوف وما بي حسن المشى
ثم يتأمل الطيب في لوحات وضعت في صالة المطار بها رجال من الشرق يعرضون بالسيوف و فتيات ملثمات .و لكن يسخر الطيب علي عدم الإهتمام بهذه الصور التي كأنها تطل علينا من وراء القرون .
(اه أي وطن رائع يمكن أن يكون هذا الوطن ,لو صدق العزم و طابت النفوس و قل الكلام و زاد العمل ) .
إعلان يحثك باللغة الإنجليزية و اللغة العربية أن تجئ إلي اركويت ,ماذا في أركويت ؟و كيف تصل إلي اركويت .
الحبال التي ربطت هذه البلاد بالعالم شرقا و غربا ,شمالا و جنوبا تقطعت حبلا بعد حبل ,وقفت سفن النيل و قطارات السكة حديد و الطائرات إلا القليل .
يقول الأستاذ أحمد محمود (كان لابد من الإنتقال من الدبة بحكم واقع الحال الذي يفرضه التعليم ,و لهذا ينتقل الطيب صالح منها إلي بورتسودان من أجل إكمال المرحلة الوسطي « كتابات سودانية « ويؤكد طلحة جبريل أن الطيب صالح تحاشى الحديث عن ذكرياته في بورتسودان . ولكن كثيرا من الشواهد سواء في كتابات الطيب صالح الابداعية أو سيرته الذاتية تعكس تلك الثقافة والمعرفة التي تربطه بالآخر ، وهي التي ستعينه فيما بعد في مرحلة امدرمان والخرطوم ورفاعة وبخت الرضا ثم لندن ، في فهم واستيعاب الآخر .
في بورتسودان – المدرسة تعرف على بيئة جديدة غير بيئة الشمالية – هي بيئة الشرق – تحمل سمات الحداثة وملامح من حضارات أخرى – أبناء السودان من بيئات أخرى معه في فصول الدراسة – هم آخر لكنه آخر قريب منك – مشابه لك – ثمة فروق قليلة هنا وهناك – لهجات أخرى غير لهجة الشمالية – هناك آخر مختلف : حضارمة – هنود – مصريين – انجليز – وجنسيات أخرى تجئ عبر البواخر التي ترسو في ميناء بورتسودان في تقديري هي المحطة الأولى التي تدرب فيها الطيب صالح على التجاوب والاندماج في بيئة جديدة غير تلك التي الفها في القرية – وفي الدبة -.
هي واحدة من المناطق التي لم تقرأها الناس جيدا أن المنهج التعليمي كان مساعدا على التعرف على البيئات المختلفة – ثم أن وسائل النقل والمواصلات : ( القطارات – سفن النيل – اللواري – الدواب ) وهي التي ترد كثيرا في روايات الطيب صالح – هي من وسائل المعرفة والتواصل الثقافي –
ليس بالضرورة أن يتحدث الطيب في سيرته الذاتية عن التفاصيل . فالطيب كما أبان طلحة جبريل كان يرفض الحديث عن سيرته الذاتية ، ويعتبر أن أعماله الابداعية وكتاباته الأخرى هي التي تتولى تقديمه الى الناس .
حينما كتب الطيب في عرس الزين عن احتفاء معسكرات القرية المختلفة بحدث العرس كان هنا يشير الى جزء من فلسفة الطيب في الحياة بقبوله للتنوع الثقافي ، والتعدد العرقي ، فالطيب حتى في فهمه لعروبة السودان كان مختلفا . كان واعيا بهذه الجذور النوبية الحضارية ، وبهذه المجموعات الزنجية ، وأن القوم هنا قد تعايشوا على مدى قرون طويلة أنتجت هذا السودان ..
تحسر الطيب صالح لأن سياسي فجر الاستقلال قد أهملوا الدعوة إلي تسميته بإسم سنار و هي عند الطيب أجدر من التسمية الحالية – و ذكر مناقب سنار التي كان لها رواق في الأزهر الشريف – و في أراضي الحجاز المقدسة .
كان الطيب صالح يرنو من بورتسودان إلي الشاطئ الآخر الجزيرة العربية و إلي ما وراء ذلك من بلاد تناولها فيما بعد في كتاباته التي جمعت في المختارات (للمدن تفرد و حديث) و خص بها بعض مدن الشرق و الغرب في كتابين منفصيلين و كان يرنو أيضا و هو يسرح ببصره مع مجري النيل شمالا إلي مصر و إلي ما وراءها.
لم يكتب الطيب مباشرة عن بورتسودان و لكنها تغلغلت في صميم بحثه عن الذات و إكتشافها – و تغلغلت في صميم ما عاشه و عاناه في الإنفتاح علي الآخر . أنظر ما كتبه التجاني في وصف حنين أحد أبناء دنقلا في العاصمة و إحساسه بالغربة – و هل الإحساس بالغربة أمر طبيعي يلازم المرء و هو في تلك السن الباكرة – إشارة إلي ان الطيب خرج من الطفولة في القرية إلي بداية سنوات النضج في بورتسودان .
كثير من الأسس التي قامت عليها أعمال الطيب هي مزيج من ثقافة البحر و ثقافة النهر النيل – خروج بندر شاه من الماء – هو مزيج من أساطير البحر المخلوقات التي تخرج من البحر و تحويل هذه الأسطورة المرتبطة بعرائس البحر إلي خروج الغريب الوافد – خلافا للنيل الذي يسير في مجراه شمالا – و خروج الرجل المكسو بالبياض هنا هو أقرب للبحر منه إلي النيل – إلا أن الفنان في الطيب صالح قد عني لا بحرفية الصورة ,و لكن بالمادة الخام و المكونات التي نقلت بندر شاه من من بيئة بحرية إلي قرية نيلية .
لا تنسي أن في جيل الطيب صالح في صباه قام قاضي بورتسودان الدرديري محمد عثمان بجلد بحارة إنجليزي – هذا و غيرها من الوقائع التي جعلت الطيب يتحدث عن أن الإنجليز سلكوا تجاه السودانيين سياسة مختلفة – رغم إقراره أن الإستعمار هو الإستعمار .
نستطيع القول أن تأثير بورتسودان غيرالمرئي تماما لمن لا يقراء الطيب صالح قراءة متعمقة مستقصية يكمن في ثنايا مشروعه الإبداعي متغلغلا في قدرته علي إكتشاف الذات , و في هضمه و إستعابه لثقافات الأخرين.
شارك المقال