إعداد: م. معتصم تاج السر
عضو مؤسس لحركة السودان الأخضر

• في السودان لا تشرق الشمس على أرضٍ واحدة بل على ألف لونٍ من الأرض والروح.
من ضفاف النيل حين يختلط الزرع بصوت الطمبور إلى رمال الشرق حين تهدهدها أنغام البالمبو ومن جبال النوبة حيث ترقص الطبول كقلوب العاشقين إلى سهول البطانة التي تفوح منها رائحة البن المسحون بالذكريات.
هناك وطن تتقاطع فيه الألوان كما تتعانق الفصول وتتناغم اللهجات كما تتآلف القلوب.
إنه السودان متحفٌ مفتوح للإنسانية تتجاور فيه القبائل كما تتجاور نبرات الأغاني وتتشابك فيه الجدائل كما تتشابك الأنهار.
فيه من تنوع الثقافات ما يجعل كل رقصةٍ رواية وكل زيٍّ نشيداً وكل حكايةٍ ليلٍ طويلٍ من المحبة والتاريخ.
وفي هذا الثراء العظيم يكمن الذهب الخفي الذي لم يُستخرج بعد…!
الصناعات الثقافية التي يمكن أن تكون لؤلؤة اقتصادنا وجسرنا نحو العالم وصوتنا الذي يروي للعالم جمال اختلافنا ووحدة وجداننا.
السودان لا يُختصر في خريطة بل في إيقاع في مثل شعبي في ضحكةٍ من قلب الريف، وفي جديلةٍ تحمل حبات الكحل ورائحة الطين بعد المطر.
ومن هنا من هذا النبض الذي يسكن كل رقعةٍ من ترابه تولد رؤية حركة السودان الأخضر التي تؤمن بأن الثقافة ليست زينة للحياة بل جذرها الأخضر وموردها الأجمل وعنوان بقائها في ذاكرة العالم.
تُعرَّف الصناعات الثقافية (Cultural Industries) بأنها مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد على الإبداع والمعرفة والهوية الثقافية كمصادر رئيسية للإنتاج وتشمل مجالات مثل: الفنون التشكيلية، الموسيقى، السينما، المسرح، النشر، الحرف اليدوية، الأزياء، التراث المادي واللامادي، وفنون الطهي والاحتفالات الشعبية.
وتعد هذه الصناعات اليوم من أسرع القطاعات نمواً في الاقتصاد العالمي إذ تسهم وفق تقارير اليونسكو والأونكتاد بما يزيد عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتوفر ملايين فرص العمل خاصة للشباب والنساء.
في السياق السوداني تُعدّ هذه الصناعات كنزاً خاماً لم يُستثمر بعد. فالسودان يتميز بتعدد ثقافي ولغوي وإثني نادر إذ يعيش على أرضه أكثر من 570 قبيلة تتحدث نحو 130 لغة ولهجة ولكل منها إرث من العادات والفنون والرموز البصرية والصوتية التي يمكن تحويلها إلى منتجات ثقافية وسياحية ذات قيمة اقتصادية عالية.

مكونات الصناعات الثقافية في السودان
التراث الشعبي والمادي:
يشمل العمارة الطينية والنقوش والزخارف والآلات الموسيقية المحلية والأزياء التقليدية التي تختلف من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.
يمكن تحويل هذا التراث إلى منتجات سياحية ومعارض ومتاحف حية.
الفنون الأدائية والموسيقية:
السودان بلد الإيقاعات المتعددة من الطمبور في الشمال إلى الكرنق في الجنوب، ومن الدلوكة في الوسط إلى البالمبو في الشرق.
هذه الفنون تمثل قاعدة لصناعة موسيقى وهوية فنية قابلة للتصدير عالمياً.
الحرف اليدوية والصناعات المنزلية:
صناعة السعف والجلود والنحاس والنسيج اليدوي والخزف، وهي حرف ذات جذور ضاربة في عمق التاريخ، لكنها تفتقر إلى الدعم التسويقي والتقني الذي يحولها إلى قطاع إنتاجي مربح.
السينما والمسرح والفنون البصرية:
للسودان تاريخ سينمائي مبكر (منذ الأربعينيات) إلا أن هذا القطاع تراجع بسبب ضعف البنية التحتية والدعم المؤسسي. ومع عودة الاهتمام بالفنون والهوية، يمكن بعث هذا القطاع من جديد في إطار رؤية وطنية للإبداع.
المطبخ السوداني والفنون الغذائية:
الأطعمة السودانية مزيج من مؤثرات عربية وإفريقية ونيليّة وصحراوية، وتمثل مجالاً واسعاً لتطوير مطاعم ومنتجات غذائية تحمل الطابع السوداني إلى الأسواق العالمية، بما يعزز «دبلوماسية الغذاء الثقافي».

التحديات الراهنة
غياب السياسات الحكومية الموجهة لتطوير الصناعات الثقافية.
ضعف التمويل والدعم اللوجستي للفنانين والحرفيين والمبدعين.
مركزية الإنتاج الثقافي وضعف البنية التحتية في الولايات.
النزاعات والحروب التي عطلت المشروعات الثقافية وأضعفت النسيج الاجتماعي.
قلة الربط بين الثقافة والاقتصاد في السياسات العامة.

رؤية حركة السودان الأخضر
تتبنى حركة السودان الأخضر رؤية شاملة لإعادة تعريف العلاقة بين الثقافة والتنمية، عبر مشروع «الصناعات الثقافية الخضراء» الذي يقوم على مبادئ التغيير الإيجابي الإنسيابي الإبداعي الأخضر، من خلال المحاور التالية:
الثقافة مورد اقتصادي مستدام:
ترى الحركة أن الاستثمار في الثقافة ليس ترفاً بل أداة لبناء اقتصاد معرفي منتج. فالمحتوى الثقافي يمكن أن يُترجم إلى مشاريع تجارية، من الأفلام والمنتجات التراثية إلى السياحة الثقافية والإعلام الرقمي.
التنوع الثقافي قوة ناعمة للوطن:
تنظر الحركة إلى التنوع الثقافي في السودان لا كعامل تفرقة بل كمصدر للوحدة والإبداع، ومنصة لتعريف العالم بعمق المجتمع السوداني وثرائه الإنساني.
فكل رقصة، وكل أغنية، وكل زيّ تقليدي، يحمل رسالة سلام وانتماء.
منصة للتعريف بالسودان عالمياً:
تسعى الحركة إلى بناء منصات رقمية ومعارض متنقلة تعرّف بالثقافة السودانية في المحافل الدولية، وربط المبدعين السودانيين بالأسواق العالمية عبر التجارة الإلكترونية والشراكات الثقافية.
تمكين الشباب والنساء:
الصناعات الثقافية بطبيعتها كثيفة الإبداع وقليلة التكلفة، وتتيح فرصاً واسعة لريادة الأعمال، خصوصاً للنساء في الريف والشباب في المدن.
من هنا تعمل الحركة على برامج تدريب وتمويل صغيرة لتحويل المواهب إلى مشاريع اقتصادية ناجحة.
البيئة والإبداع:
تؤمن الحركة بأن الإبداع الثقافي يجب أن يكون صديقاً للبيئة، عبر استخدام خامات محلية معاد تدويرها، والترويج للحرف الطبيعية في إطار مفهوم «الثقافة الخضراء».

مقترحات عملية للتنفيذ
إنشاء صندوق دعم الصناعات الثقافية الخضراء.
تأسيس مركز وطني للتراث الحي والحرف المستدامة.
تنظيم مهرجان السودان الثقافي الدولي سنوياً لتعريف العالم بالتنوع السوداني.
إدخال التربية الثقافية الإنتاجية ضمن المناهج المدرسية ضمن مشروع «المدرسة الإنتاجية الإبداعية الخضراء».
تطوير منصات تسويق رقمية للحرف والفنون السودانية.

الوعد والمنى
إن الصناعات الثقافية ليست ترفاً فنياً بل قوة اقتصادية ناعمة يمكن أن تعيد للسودان مكانته بين الأمم عبر الإبداع والإنتاج الثقافي.
رؤية حركة السودان الأخضر تسعى لأن يكون السودان منارةً ثقافية إفريقية عربية، تعرّف العالم بجمال إنسانه وتنوعه وروحه الخضراء.
فالثقافة هي الزراعة الأولى للروح، ومن رحمها تنبت الهوية والاقتصاد والسلام.
شارك المقال
