
لؤي إسماعيل مجذوب
ضابط سابق - باحث في شؤون الأمن الوطني والحرب النفسية
• ما يجري داخل بنية المليشيا المسلحة في السودان ليس مجرد توترات سطحية بين المقاتلين، بل تفكك بنيوي يعكس نهاية طور وبداية آخر. تقاطعت فيه الانتماءات القبلية مع التصدعات السياسية، وتراجعت فيه الروح القتالية تحت ضغط الانهيارات الميدانية والخلافات العنيفة حول القيادة والمصالح.
في الأسابيع الأخيرة، ظهرت مؤشرات واضحة على ضعف وتفكك المليشيا في محاور القتال، خاصة في شمال كردفان وغربها. معلومات ميدانية أكدت انسحاب قوة كبيرة إلى منطقة المزروب بشرق دارفور، متجاوزة التعليمات القيادية، ومتمركزة داخل السوق المحلي بعد أن واجهت نقصاً في الإمداد الغذائي والوقود. هذا الانسحاب لم يكن معزولاً، بل جاء ضمن سلسلة تحركات تعكس تدنياً حاداً في المعنويات، وخلافات متفاقمة داخل جسم المليشيا.
تأتي هذه التطورات في وقت تعيش فيه المليشيا انقساماً خطيراً بين مكوناتها القبلية الأساسية، أبرزها بين الرزيقات، الذين يحتكرون القرار السياسي والميداني، والمسيرية، الذين يجدون أنفسهم مقصيين من مواقع التأثير رغم الثقل البشري الذي شكلوه على الأرض. وقد تأكد هذا التهميش بشكل فاضح مع تشكيل ما يسمى بـ»مجلس الـ15»، الذي لم يُمنح فيه للمسيرية سوى مقعد واحد، في مقابل أربعة مقاعد لحليف قديم – جديد: عبد العزيز الحلو.
هذا التحول في التوازنات داخل المليشيا لا يمكن فصله عن التبدلات التي تشهدها العلاقة بينها وبين الداعم الإقليمي الرئيسي، الإمارات. فبعد أشهر من الفوضى الميدانية، وتعدد شبكات التهريب، وعجز المليشيا عن الحسم أو الحفاظ على السيطرة، بدأت أبوظبي تتراجع خطوة إلى الخلف، وتبحث عن بدائل أكثر قابلية للضبط، وأقل انكشافاً على الفوضى القبلية. ويبدو أن الحلو، رغم خلافاته المبدئية مع المليشيا، بات يظهر كخيار محتمل، أو على الأقل كأداة ضغط لتطويع المليشيا.
الحلو، بعكس المليشيا، يملك ما تفتقده: مركزية القرار، انضباط القوة، مشروع سياسي واضح، وسيطرة جغرافية صلبة. لكن في المقابل، يفتقر إلى الشبكات الإقليمية الواسعة التي تميزت بها المليشيا، ولا يحظى بقبول واسع في دارفور أو كردفان، خاصة وسط المكونات العربية التي ترى في مشروعه تهديداً وجودياً.
أما على الأرض، فقد انعكست هذه التناقضات في نتائج ميدانية لصالح الجيش. من أم صميمة إلى رهيد النوبة، ومن سوق المواشي بالفاشر إلى كمائن طريق الصادرات، تظهر القوات المسلحة تماسُكاً ميدانياً في مقابل تآكل تدريجي لقوة المليشيا. ليست الصدفة أن يتزامن تقدم الجيش مع موجات من الانسحاب والانشقاق والارتباك داخل المليشيا. فالعامل النفسي يلعب هنا دوراً محورياً، ويتغذى من غياب الثقة داخل صفوف العدو، وتبدّل أولوياته من القتال إلى الاحتماء بالقبيلة أو الفرار من ساحة المعركة.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن ليس عن مدى صلابة المليشيا، بل عن موعد الانفجار النهائي داخلها. فالاحتقان بين المسيرية والرزيقات لم يعد يدار بالتكتم، بل صار مادة للنقاش العلني، وبدأ يطفو على السطح في شكل انسحابات، وبيانات متداولة، وسلوك ميداني يكشف عن غياب التنسيق وضعف الانضباط. ويزداد هذا الخطر مع شعور المسيرية بأنهم تحولوا إلى مجرد وقود لحرب لا يملكون فيها قراراً ولا مكسباً، في مقابل تحالفات تزداد تعقيداً بين قادة المليشيا والحركات المسلحة المنافسة لهم تاريخياً.
في هذا السياق، تصبح الفرصة سانحة أمام الجيش لإدارة المعركة بطريقة مزدوجة: ميدانية ونفسية. فكما تتقدم القوات على الأرض، يجب أن تُدار معركة الإعلام والاستهداف النفسي بحرفية عالية، تُظهر للعالم أن هذا التشكيل المليشياوي لم يعد قادراً على البقاء موحداً، وأن تفككه لم يعد خياراً نظرياً، بل واقع قيد التشكل.
الخطورة لا تكمن فقط في الانقسام الحالي، بل في المسارات التي قد تتبناها الإمارات في حال أدارت ظهرها بالكامل للمليشيا. فتغذية قوات الحلو، سواء بالتسليح أو الدعم الاستخباراتي، يمكن أن تؤسس لمليشيا جديدة بقناع مختلف، لكنها لا تقل خطورة على وحدة السودان. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن بقاء الجيش كقوة وطنية موحدة هو الضامن الوحيد لمنع تكرار مشهد الفوضى، أياً كان غلافها أو الراية التي ترفعها.
إن ما يحدث الآن داخل المليشيا ليس خلافاً طارئاً، بل بداية النهاية لتكوينٍ هجين، لم يقم على عقيدة، ولا يحكمه مشروع، وانحاز منذ البداية للمال والسلاح على حساب الدولة. وما يُقال عن احتمال المواجهة المفتوحة بين المسيرية والرزيقات لم يعد افتراضاً، بل تحول إلى حديث يومي تتداوله القواعد وتترقبه القيادات.
في لحظة كهذه، يصبح على المؤسسة العسكرية أن تدير هذه المعركة كما تُدار معارك الجبال: بالصبر، والدقة، والاستثمار الذكي في هشاشة الخصم، لا بعقلية الحسم السريع وحده. فالتآكل الداخلي هو السلاح الأنجع في مواجهة مليشيا لم تعد تعرف من تقاتل ولا من يمثلها.
هذا الصدع لن يُرمم، لأنه من الداخل.
وكل ما نحتاجه، أن نواصل الضرب على موضع الانفجار.
شارك المقال