الشيخ (الطيب السرّاج).. من أشهر أعلام اللغة العربية في السودان 

351
السراج
Picture of بقلم : زين العابدين الحجّاز

بقلم : زين العابدين الحجّاز

• هو (الطيب بن عبد المجيد بن محمد السرّاج) . ينتسب إلى (محمد السرّاج) و هو من أشراف مكة وكان يتعهد بإنارة الحرم المكي أثناء الحج بالأسرجة.

ولد (الطيب السرّاج) بمدينة أم درمان في عام 1893م ودخل الخلوة ثم التحق بالمدرسة الأولية ثم المدرسة الوسطى في مدرسة أم درمان الأميرية الإبتدائية التي تخرج فيها عام 1910م وواصل تثقيفه الذاتي وانكبَّ على قراءة تراث شكسبير . بعد تخرجه في المدرسة الوسطى التحق بخدمة الحكومة كاتبا باللغة الإنجليزية في مصلحة الأشغال . بعدها التحق بالجيش البريطاني مترجما ثم انتقل إلى إدارة السكة حديد في قسم المحاسبين بمدينة عطبرة مقر رئاسة السكة حديد ثم انتقل إلى مصلحة الوابورات بالخرطوم بحري وظل يعمل فيها حتى استقالته في 1946م إثر خلاف حاد مع الإداريين البريطانيين إبان اشتداد أوار الحركة الوطنية في السودان.

ظهر الشيخ (الطيب السرّاج) لأول مرة على مسرح الحياة الأدبية في السودان خلال النصف الأول من عشرينات القرن الماضي في مدينة عطبرة حيث كان يعمل بحسابات مصلحة السكة الحديد وكان وقتئذ شابا في العشرينات من عمره قدّمه علي مسرح النادي المصري بعطبرة اللواء (محمد فاضل باشا) قائد كتيبة السكة الحديد .  كان مجلسه مدرسة و قد أخذ  عنه (أبو شرف) و(خليفة عباس) و(حسن مدثر الحجّاز).

في عام 1946م هاجر إلى مكة المكرمة وعمل مدرسا بمدرسة الفلاح الثانوية . وهب حياته للنهل من تراث اللغة العربية وآدابها وأشعارها بل اختار حياة الفروسية العربية نهجا لحياته وصارت مسلكه اليومي طبعا وتطبعا . كان يرتدي اللباس العربي ويعتمر العمامة الخضراء ويتجول في الطرقات بفرسه . لقد شاهدته مرة واحدة عام 1959 مارا بشارع منزلنا في حي القلعة باْم درمان راكبا فرسه و لابسا عمامة خضراء و متجها جنوبا الى طريق اْبروف . كان الشيخ (الطيب السرّاج) متفردا في محبته للغة العربية وقد أحبّ كلاسيكيات الشعر والآداب العربية وقد شغفته حبا فتعلمها كدحا بلا معلّم دلف للحياة العربية القديمة وتجول في باديتها واكتسب ثقافتها مسلكاً ولغة . اكتنز محبة عميقة للثقافة العربية و وهب حياته لتلك الثقافة آدابها وأشعارها .  أحب حياة البادية وتقمّصها في مسلكه وفي معاشه بل أقام جسورا عبرت منها لغته المتداولة إلى العربية الفصحى . كان الشيخ قرءآني المرجع بهي اللغة رصين الشعر فصيح اللسان فنطق الحرف فصيحا قرشيا مستطابا . راسل علماء اللغة في الاْقطار العربية ومنهم (عبد القادر المغربي) في دمشق و(النشاشيبي) في القدس و(الشنقيطي) في القاهرة فعجبوا لعلمه ووفرة معرفته.

 في عام 1950م سافر الي مصر وكان لديه أمل في الإنتماء لعضوية مجمع اللغة العربية في القاهرة .عرض عليه الصاغ (صلاح سالم) أن يكون مديرا لإذاعة « صوت العرب « في القاهرة عام 1954م فلم يقبل العرض . في تلك الفترة تعرّف على (عباس محمود العقّاد) فقال عنه (العقّاد) إنه بحر ولكنه بحر متلاطم الأمواج . وفي مرة سأله (العقّاد) : « لماذا لا تلتزم منهجا وترتب هذا العلم ؟! « فردّ عليه : « العلم بحر لا حد له فإن أردتني هكذا فأنا كـما أنا هو وإن أردتني غير ذلك فأنا لست أنا فأنا أنت فهل تريدني أن أكون غير نفسي « . ثم أنشد له:

أراني وذئب القفر السفين بعدما بدأنا كلانا یشمئز ويزعر

تألقني لما دنا وأبغته وأمكنني للرمي لو كنت أغدر

فضحك (العقّاد) وقال  :»عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير»

فقال السراج : «عرفتها يا جبّار لقد كنت أقصد (الأحيمر السعدي) واستحيت أن أذكر بيته القائل:

كفى حزناً إن الحمار من جندل علي باكناف الستار أمير.

كان الشيخ (الطيب السراج) شديد الإعتداد بفصاحته وعمق دراسته اللغة العربية حتى أنه جاهر بأن لا أحد يتفوّق عليه في معرفتها وكان الشيخ لا يعيش إلا في الأدب القديم والتاريخ القديم والشعر القديم ومجالسه كانت مجالس علم لا يترك شاردة ولا واردة وإذا تحدث تدفق وانحدر كالسيل فهو لا يعرف أين يقف بل لا يريد أن يقف ويقول ما دام هناك علم وما دام هناك طريق إلى هذا العلم ورغبة في الحصول عليه فلماذا لا نسترسل فيه ؟ .   كان يحمل علمه بين ثنايا ضلوعه لا يرجع إلى مرجع ولا يستشير موسوعة.  

عمل في دائرة المهدي ردحا من الزمان وكلّفه السيد (عبد الرحمن المهدي) الذي كانت تربطه به صداقة وطيدة بوضع كتاب في سيرة الإمام المهدي وتاريخ المهدية وظل الشيخ (الطيب السرّاج) على صلة طيبة ببيت الإمام المهدي إلى آخر أيام حياته وتتلمذ عليه عدد من آل المهدي خاصة السيد (الصادق المهدي) . وقد حكى السيد (الصادق) أن (الطيب السراج) كان له تذوق كبير للفن السوداني فقد كان يرتجف طربا من قول المغنية : « سنك ريال جيد، ودقاقها مو بليد « معتبرا ذلك البيت قمة في الفصاحة والإبداع. 

جمعته بالسيد (الصادق) علاقة التلميذ بالمعلم في البداية فقد انتبه الإمام (عبد الرحمن المهدي) في مرحلة ما أن أبناءه وأحفاده الذين دخلوا للتعليم في المدارس الأجنبية يحتاجون لسد ثغرة تعليمهم في علوم العربية والفقه ونظم دروسا لهم يلقيها عليهم الشيخ (الطيب السراج) الذي كانت تجمعه به علاقة جيدة كما ذكر آنفا . كان الشيخ (الطيب السرّاج) يلقي عليهم تلك الدروس ومنها توطدت علاقته ببعضهم ولكن أقوى علاقة هي التي جمعته بالسيد (الصادق المهدي) في صباه ثم شبابه . فبعد أن ذهب السيد (الصادق) إلى كلية فكتوريا بالإسكندرية وأدرك أنه في الكلية التي تنتهج الثقافة الغربية وتفرض على الطلاب التحدث بالإنجليزية قد ابتعد من مناهل الثقافة العربية والإسلامية رجع للبلاد مصمما على ملازمة الشيخ (الطيب السرّاج) ففعل . في تلك الفترة كان معه كظله يذهب معه حيث يكون ويدون أية كلمة يتفوه بها الشيخ و قال « حتى إذا كحّ شيخ الطيب كتبتها! «. واعتبر أن تلك الفترة التي لازم فيها الشيخ (الطيب السرّاج) من أثرى أيام حياته فقد كان الرجل متحفا متحركا مليئا بكل تالد وطريف. وحتى بعد أن دخل السيد (الصادق) جامعة الخرطوم (كلية العلوم) كان يواصل ملازمته للشيخ (الطيب السرّاج) في بعض ساعات اليوم . تواصلت علاقته معه  طيلة فترة شبابه وتحولت لصداقة وود متبادل. 

في عام 1963 مات الشيخ الطيب غيلة وغدرا . لقد مات مقتولا ولم يكشف سر اغتياله وقاتله حتى الآن وما كان الشيخ يوما يحمل الحقد أو يذكر الناس بسوء أو يتتبع الهفوات بل كان قليل الإتصال بالناس قليل الحديث وإذا تحدث فكأنما يهمس همسا . ولقد استمر صالون (الطيب السرّاج) في نشاطه  إلى أواخر أيام حياته . وبعد رحيله واصل ابنه (فرّاج الطيب) السير على درب أبيه محافظاً على نهجه وتراثه وقد أمّ الصالون بعض أصدقاء والده من أعضاء الصالون مثل : بابكر أحمد موسى-  حسين حمدنا الله . وبجانب هؤلاء كان يشارك في نشاط الصالون عدد من الأدباء والشعراء ومحبي العربية سودانيين وغير سودانيين منهم : محمد محمد علي – عبد الله الشيخ البشير- مبارك المغربي – محي الدين فارس – مصطفى سند – الشاعر اليمني السوداني الدكتور محي يحيى الشرفي – مهدي محمد سعيد  .  ومن الشعراء الشباب : أبو قرون عبد الله أبو قرون –  د. أحمد محمد البدوي –  عبد القادر الكتيابي –  د. حديد السرّاج . تواصل نشاط صالون (فرّاج الطيب) واستمر قبلة لكبار الأدباء وشبابهم كما هو قبلة لعشاق العربية حتى رحيله في الخامس من أكتوبر سنة 1998.

رحم الله الشيخ الجليل (الطيب السرّاج) رحمة واسعة بقدر حبه للقرءأن ولغة القرءآن وحرصه عليها وإخلاصه لها وحث الناس عليها.

 

شارك المقال

1 thought on “الشيخ (الطيب السرّاج).. من أشهر أعلام اللغة العربية في السودان 

  1. الكثير من الكتّاب عند كتابتهم عن الشيخ الطيِّب السرَّاج – إمام اللغة العربية في العصر الحديث يتناقلون ما نسب إلى تلميذه الدكتور. خضر حمد في مذكراته والتي جاء فيها أن السرّاج قد رفض ترشحه للمجمع اللغوي بحجة أن ليس له مؤلفات منشورة، وأن المرشح للمجمع تقدمه مؤلفاته، وهذا غير صحيح.

    وإِنَّ من المغالطات التاريخية المتداولة على نطاق واسع في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإِلكترونية عموماً، ما يُروّج له من أن البروفيسور عبد الله الطيب كان أول ممثل للسُّودان في المجمع اللغوي في مصر عام 1957، وينسبون له خطبة لم أجد لها أثراً أو توثيقاً في محاضر جلسات المجمع في العام المذكور. ولا حتى إِشارات لها في مذكرات البروفيسور ولا مؤلفاته المنشورة، ولا حتى لقاءاته الإِعلامية التوثيقية.

    ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن البروفيسور عبد الله الطيِّب، لم يكن تلميذاً نهل من علم السرَّاجي فحسب، بل جليساً للسرَّاج ومجالِساً له في حلقات الفكر واللُّغة بصالون السرَّاجي الأدبي “منتدى الأصالة” والذي يُعدُّ أول صالون أدبي في السُّودان تأسس في عشرينيات القرن الماضي، وثاني صالون أدبي في الوطن العربي بعد صالون “مي زيادة” في مصر.

    ومن هذا المنطلق أجد نفسي مضطراً لتصحيح هذه الروايات المغلوطة، وتجسيد الحقيقة في محاور رئيسة تتوخى الدقة والوضوح وإِليك:-

    الشيخ الطيِّب السرَّاج هو أول من حمل راية السُّودان في المجامع اللُّغوية، وأول سوداني ينال عضوية المجمع اللغوي في القاهرة، الذي كان يُعرف آنذاك باسم “مجمع فؤاد الأول للغة العربية”، وذلك في العام 1933 بعد صدور المرسوم الملكي بتأسيسه في العام 1932.

    ولقد بدأ السرَّاج مشواره كعضو في هذا الصرح العلمي، ثم ترقى في المناصب حتى اختير رئيساً للجنة التحقيق وإِحياء الكتب القديمة، قبل تقلد مرتبة العضو المراسل في خمسينيات القرن العشرين.

    ويروي البروفيسور عبد الله الطيب في تحقيق صحفي نشرته صحيفة الرأي العام عن قصة ترشيح الشيخ الطيِّب السرَّاج للمجمع اللغوي، والتي نقلها الكاتب الصحفي المخضرم الأستاذ إِبراهيم دقش، حيث يقول البروفيسور عبد الله الطيِّب:
    “كنتُ ضمن الوفد الذي ذهب إِلى القاهرة لتقديم الشيخ الطيِّب السرَّاج مرشحاً عن السُّودان في المجمع اللُّغوي، وأقمنا في بيت السُّودان، وعشية جلسة الترشيح اتصلت بعميد الأدب العربي الأستاذ طه حسين، وقرأت عليه أبياتاً من قصيدة للسرَّاجي يمدح فيها ملك اليمن وإِمامها، يقول فيها:
    يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمَرْجُوُّ نَائِلُهُ
    وَالْمُسْتَغَاثُ بِهِ فِي مُخْلَفِ الْمَزْنِ
    إِلَيْكَ جِئْتُ مِنَ السُّودَانِ تَرْفَعُنِي
    إِلَى لِقَائِكَ أَشْوَاقِي وَتَخْفِضُنِي
    مُهَاجِرًا مِنْ بِلادِ الشِّرْكِ، لَيْسَ لَنَا
    عَنْهَا مُرَاغَمَةٌ إِلَّا إِلَى الْيَمَنِ
    أَهْلَ الْمَصَانِعِ مِنْ غَمْدَانَ تَحْسَبُهُ
    إِذَا دَجَا اللَّيْلُ سَحَّ الْعَارِضِ الْهَتَنِ

    فقال لي: “إِنَّ الذي يكتب مثل هذا الشعر قد مات واندثر منذ آلاف السنين”، فأجبته: “بل هو حي يرزق، وهو معي في بيت السُّودان، وهو مرشح السُّودان للمجمع اللُّغوي.”
    وقد شهدت جلسة الترشيح تحدياً نبيهاً من السرَّاج لأعضاء المجمع، حين طلب منهم أن يأتوا بما يعرفونه من أسماء الأسد، فلم يستطع الحاضرون حصر أكثر من سبعة عشر اسماً، فيما أتم السرَّاج العد حتى وصل إِلى ثلاثةمائة اسماً.

    وقد استهلّ السرَّاجي خطبته في المجمع اللُّغوي بأبيات من قصيدته الباذخة “التجديد”، التي عُرفت بين النقّاد برائعة القريض العربي؛ وقد تناقلت الروايات نسختين من هذه القصيدة: إحداهما مكتوبة، والأخرى مرتجلة ألقاها في حضرة المجمع ارتجالاً، فأسرت القلوب بجزالة لفظها وعراقة أسلوبها. وهنا أورد الصيغة المرتجلة لأوائل أبياتها التسعة، إِذ تجلّى فيها ألق البيان، وتوهّجت فيها روح الشعر الأصيل، فانبثقت منها حرارة الخطاب ووهج الرسالة.

    قالوا اسْتَعِيدُوا مَجْدَكُمْ تَجْدِيدًا
    لَاقَى الْمُرَادُ مِنَ النَّصِيحِ مَرِيدًا
    قَرَعَ الظَّنَابِيبَ الْيَعَاسِيبَ الأُلَى
    يُحْيُونَ فِينَا كُلَّ يَوْمٍ عِيدًا
    شَدَّ الْحَيَازِيمَ الْكِرَامَ لِيَبْعَثُوا
    بَعْدَ الْبِلَى لُغَةَ الْجُدُودِ جَدِيدًا
    لُغَةَ الْجَحَاجِيحِ، الْوَحَاوِيحِ،
    الْمَصَابِيحِ، السَّمَاةِ جُدُودًا
    أَعْنِي الْمَرَازِبَةَ، الْمَلَاوِثَةَ، الْخَلَاجِمَةَ،
    الْخَضَارِمَةَ، الْأَبَاةَ الصِّيْدَا
    مِنْ كُلِّ سَرْدَاحٍ كَهَاةٍ جَسْرَةٍ
    جَلْسٍ عَشُوزَنَةٍ تُؤَوِّدُ الْجُودَا
    كَوْمَاءَ بَادِيَةِ الدُّخَيْسِ دَرْفَسَةً
    كَبْدَاءَ تَنْزِعُ مَشْيَهَا تَهْوِيدَا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *