
محجوب الخليفة
كاتب صحفي
• في كلِّ مرحلةٍ مفصليةٍ من تاريخ السودان الحديث، تبرز خيوطُ مؤامرةٍ محبوكة، تمتدّ من غرف الاستخبارات الأجنبية إلى قاعات المنظمات الدولية، مرورًا بشبكات إعلامية ومراكز أبحاث تدّعي الحياد. لكن الحقيقة التي لا تخطئها العين ولا تغفل عنها البصيرة، أن السودان وطنٌ محاصرٌ بتآمرٍ قديمٍ متجدّد، هدفه ليس فقط تمزيق الجغرافيا، بل أيضًا نسف الهوية، وتحطيم مقدّرات الدولة، وتحويلها إلى كيانٍ هشٍّ لا يستطيع النهوض.
لقد نجحت تلك القوى، قبل سنوات، في فصل جنوب السودان بعد عقودٍ من التخطيط والعمل المنظم، مستخدمةً أدواتٍ داخلية من العملاء والمتواطئين الذين باعوا ضمائرهم لصالح مشاريع الهيمنة الغربية.
واليوم، تعود ذات المخططات بصورة أكثر عنفًا ووقاحة، في محاولةٍ لسلخ دارفور، وتغذية النزعات الانفصالية في مناطق أخرى، تحت شعارات زائفة من الحرية، وحقوق الإنسان، والتهميش. لكن الحقيقة هي أن المشروع أكبر من ذلك بكثير، إنه مشروع لإعادة هندسة المنطقة كلها، بدءًا من السودان.
مشروع التمزيق… وخرائط ما بعد الدولة الوطنية
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، بات واضحًا أن هناك قوى دولية، تقودها أمريكا وإسرائيل، وبدعمٍ مباشر أو ضمني من بعض الدول الأوروبية والعربية، لا ترغب في وجود دولة قوية في قلب أفريقيا والعالم العربي، خاصة إن كانت هذه الدولة تملك موقعًا استراتيجيًا مهمًا، وثرواتٍ طبيعية هائلة، وشعبًا ذا نزعة استقلالية تاريخية كما هو الحال في السودان.
فمشروع «الفوضى الخلاقة» لم يكن شعارًا عابرًا، بل كان عنوانًا لمرحلة كاملة من التدخلات المنظمة، التي تبدأ بإشعال النزاعات الداخلية، وتغذية الانقسامات، وإغراق البلاد في صراعات عبثية، ثم دفع النخب إلى الارتماء في أحضان المنظمات الأجنبية والدعم الغربي المشروط. وهكذا، يصبح الوطن ساحة لتجريب نظريات التفكيك وإعادة التركيب وفقًا لمصالح القوى الكبرى.
خناجر الداخل حين يتحوّل بعض الأبناء إلى أدوات تمزيق
الأخطر من التآمر الخارجي، هو تواطؤ بعض السودانيين ممن ارتضوا أن يكونوا أدوات تنفيذ لخطة تمزيق الوطن. فهم إما سياسيون يعتمدون على خطاب الكراهية والانفصال، أو قادة ميليشيات يرهنون مصير شعوبهم مقابل السلاح والسلطة، أو نخب ثقافية تشوّه وعي الجماهير، وتبثّ سموم الهزيمة النفسية، وتشكك في كل مشروع نهضوي وطني.
لقد أصبح من الواضح أن هنالك خلايا منظمة تتبع أجنداتٍ دولية، تعمل على تحريك النزاعات الإثنية، وتعميق الشروخ الجهوية، وتزييف التاريخ، والتشكيك في الهوية الجامعة، في محاولةٍ لخلق سودانٍ بلا ذاكرة ولا مستقبل.
الهدف منع ولادة دولة جسورة تنهض من قلب الخراب
ما تخشاه إسرائيل والغرب الاستعماري، ليس فقط وحدة السودان، بل نهضته. فالسودان إذا نهض، سيصبح قِبلةً جديدةً للمقاومة، ومركزًا استراتيجيًا يربط بين أفريقيا والعالم العربي، بموارده وموقعه ووعيه المتجذّر. وهم يدركون أن أمة السودان إذا توحّدت حول مشروع وطني جامع، فإنها قادرة على كسر التبعية، ورفض الإملاءات، وبناء نموذج تنموي مستقلّ، وربما تصبح الشرارة التي تُسقط خرافة «إسرائيل الكبرى»، وتفضح أوهام «الشرق الأوسط الجديد»، الذي تسعى إليه أمريكا منذ عقود.
ولذلك، فإنهم يسعون لإبقاء السودان في حالة نزيفٍ دائم، لا يعرف الاستقرار، ولا يسمح لعقله الجمعي بالتقاط أنفاسه، لأنه متى ما فعل، فإنه سيبدأ رحلة البناء، وهو ما لا تريد له قوى الهيمنة أن يحدث.
المسؤولية التاريخية هل نفيق قبل فوات الأوان؟
ما يحدث اليوم في دارفور وغيرها من الولايات، وما يُخطَّط له من تجزئة إضافية، هو ناقوس خطرٍ يجب أن يُسمَع بوضوح. يجب أن يتجاوز السودانيون خلافاتهم السياسية والجهوية، وأن يدركوا أن معركتهم الحقيقية ليست مع بعضهم البعض، بل مع منظومة دولية لا تريد لهم أن يكونوا.
السودان في دائرة «الآمر المستمر» ما لم يتحرّر وعيه، ويتطهّر من عملاء الداخل، ويتوجّه نحو مشروع وطني شامل، لا يُقصي أحدًا، بل يبني على ما هو مشترك، ويستنهض مكامن القوة الكامنة في تنوعه وثقافته وذاكرته التاريخية.
لن ينهض السودان ما لم يعرف أن التآمر عليه ليس وهمًا، بل حقيقةٌ موثقة، وأن المواجهة تبدأ بالوعي، ولا تنتهي إلا بالتحرر الكامل من كل التبعية، والتوجّه نحو بناء دولة جسورة، تقف من قلب الخراب لتقول للعالم:
نحن هنا، لا نُشترى، ولا نُهزم، ولا نُفنى.
شارك المقال