السودان في العصر الرقمي: من توثيق الجراح إلى بناء المستقبل

21
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

• في العقود الأخيرة، دخل العالم في مرحلة غير مسبوقة تُعرف بـ»العصر الرقمي»، حيث باتت التكنولوجيا هي المحرك الرئيسي للحياة اليومية. الإنترنت، والهواتف الذكية، والذكاء الاصطناعي، ومنصات التواصل الاجتماعي، كلها أدوات لم تعد ترفًا بل ضرورة. لم يعد من الممكن اليوم تصوّر الحياة دون التقنيات الرقمية التي دخلت كل بيت، وكل جيب، وكل قرار. وإذا كان هذا التحول قد أحدث ثورة في التعليم والعمل والصحة والإعلام، فإن انعكاساته تكون أعظم وأعمق في البلدان التي تمرّ بصراعات كبرى، كما هو الحال في السودان.

في ظل الحرب التي اندلعت في السودان في أبريل 2023، برز العصر الرقمي ليس فقط كوسيلة للتوثيق أو التواصل، بل كأداة مقاومة، وحلٍّ بديل في ظل غياب الدولة، وفرصة استراتيجية لإعادة البناء. ومع تصاعد النزاع، وتراجع الخدمات، وانهيار المؤسسات، وجد السودانيون أنفسهم مضطرين لاستخدام الوسائط الرقمية بطرق لم تكن مألوفة سابقًا، وأحيانًا بوسائل بدائية ولكنها فعّالة.

التحول الرقمي في الحياة اليومية

قبل الحرب، كان الاستخدام الرقمي في السودان يتطور تدريجيًا، مدفوعًا بجيل شاب متعلم ومتصالح مع التقنية. دخلت الهواتف الذكية كل منزل تقريبًا، وبدأ استخدام تطبيقات المراسلة مثل واتساب وفيسبوك وتيليغرام في تنظيم الحياة اليومية، من الدعوات الأسرية إلى الحملات الاجتماعية. ومع ظهور المنصات التعليمية مثل إدراك وكورسيرا، أصبح من الممكن للطلاب السودانيين تعلّم البرمجة، واللغات، وحتى إدارة المشاريع عن بُعد.

في مجال العمل، بدأ عدد متزايد من الشباب في الاتجاه نحو العمل الحر، مثل الترجمة، التصميم، صناعة المحتوى، وإدارة الصفحات على منصات التواصل الاجتماعي. هذه التحولات كانت بطيئة نسبيًا، لكنها فتحت آفاقًا جديدة خصوصًا في ظل ضعف الاقتصاد الوطني وندرة فرص التوظيف التقليدي.

أما في مجال الإعلام، فقد تحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى منابر حقيقية للتعبير عن الرأي، ونشر الأخبار، وتوثيق الأحداث. ومع ضعف الإعلام الرسمي، أصبح المواطن الصحفي هو المصدر الأولي للمعلومة.

أثر الحرب السودانية على الاستخدام الرقمي

مع اندلاع الحرب، اكتسب التحول الرقمي بعدًا وجوديًا في حياة السودانيين. فالتعليم توقف في معظم الجامعات والمدارس، واضطرت آلاف الأسر للنزوح داخليًا أو اللجوء إلى دول الجوار. الكهرباء والإنترنت انقطعت عن أحياء كاملة، لكن العزيمة على التواصل والبقاء حيّين رقميًا لم تنقطع.

في ظل غياب الصفوف الدراسية، لجأ العديد من الأساتذة إلى التعليم عن بعد. تم إنشاء مجموعات على تيليغرام وواتساب لتدريس المناهج، وبعض المنصات السودانية البديلة بدأت تنمو كجهود فردية. 

طلاب في معسكرات النزوح تمكنوا من حضور دروس على زووم أو يوتيوب، واستفادوا من تطبيقات مثل Khan Academy أو Coursera لتكميل تعليمهم بأنفسهم. هذا الاستخدام التلقائي وغير المنظم للتعليم الرقمي أنقذ مستقبل آلاف الطلاب، وفتح النقاش حول أهمية إدماج التعليم الرقمي بشكل دائم في بنية النظام التعليمي السوداني ما بعد الحرب.

أما في سوق العمل، فقد توقف النشاط الاقتصادي في معظم المدن. ولكن على الجانب الآخر، شهدت المنصات الرقمية نشاطًا متزايدًا. كثير من الشباب السودانيين توجهوا إلى العمل الحر عبر الإنترنت، مستخدمين مهاراتهم في الكتابة، التصميم، والبرمجة لكسب دخل بالدولار عبر مواقع مثل Upwork وFiverr  وFreelancer. كما ظهرت مبادرات نسائية رقمية لتسويق المنتجات اليدوية والغذائية محليًا ودوليًا.

في القطاع الصحي، كان الوضع أكثر مأساوية. مع تدمير المستشفيات ونقص الأدوية، لجأ بعض الأطباء إلى تقديم استشارات طبية عبر الإنترنت. تم تداول مقاطع فيديو توعوية عن الوقاية من الأمراض، وتم استخدام تطبيقات تشخيصية مثل Medscape لتقديم خدمات إسعافية في ظل غياب المؤسسات الصحية. وحتى وصفات العلاج الطبيعية والمجتمعية أصبحت تُتداول رقميًا بين السودانيين.

التحويلات المالية الرقمية أيضًا شكّلت شريان حياة للنازحين. فقد استخدم السودانيون في المهجر تطبيقات مثل Remitly وWestern Union  لتحويل الأموال بسرعة إلى أهاليهم. وفي بعض المناطق، أصبح الدفع عبر تطبيقات الموبايل بديلًا عن التعامل النقدي، رغم ضعف البنية التحتية الرقمية.

التضامن الرقمي أيضًا برز بشكل لافت. ظهرت عشرات المبادرات على الإنترنت لجمع التبرعات، تنظيم الإغاثة، وتوجيه النازحين إلى مناطق أكثر أمانًا. وحتى التنبيهات الأمنية باتت تُنشر عبر مجموعات واتساب وتويتر لحظة بلحظة، ما أنقذ أرواحًا لا تحصى.

التحول الرقمي والمشاركة السياسية في السودان

واحدة من أبرز الآثار بعيدة المدى للعصر الرقمي في السودان، هي تأثيره على وعي المواطنين السياسي، وخاصة فئة الشباب. فبينما كانت المشاركة السياسية في السابق محدودة بالمظاهرات الميدانية أو الأحزاب، أتاح الفضاء الرقمي مجالًا غير مسبوق للتعبير، والنقاش، والتنظيم.

خلال ثورة ديسمبر 2018، كانت منصات مثل فيسبوك وتويتر وسيلة التعبئة الأساسية. انتشرت مقاطع الفيديو، الشعارات، والتوثيق الحي من الميدان بشكل لحظي، ما جعل الفضاء الرقمي جزءًا من ساحة المعركة من أجل الديمقراطية. واستمرت هذه الديناميكية في الحرب الأخيرة، حيث استخدمت اللجان المقاومة، والناشطون، وحتى الأطباء والمنظمات الحقوقية، التكنولوجيا لفضح الانتهاكات وتنسيق جهود الإنقاذ.

في مرحلة ما بعد الحرب، يمكن تحويل هذا الزخم الرقمي إلى أدوات لبناء مؤسسات ديمقراطية تشاركية. مثلًا، يمكن تطوير تطبيقات تتيح للمواطنين تقديم مقترحات، التصويت على مشاريع قوانين محلية، أو تقييم أداء الخدمات. ومن خلال الذكاء الاصطناعي، يمكن للحكومة المستقبلية أن تحلل الاتجاهات العامة لاحتياجات المواطنين، وتوجه الإنفاق وفقًا لأولويات حقيقية على الأرض.

المجتمع المدني والتحول الرقمي كأداة للبقاء

برزت أهمية التحول الرقمي أيضًا في تمكين منظمات المجتمع المدني السوداني من العمل في ظل الحرب. فمع انقطاع التنقل وصعوبة الوصول للمناطق المتضررة، اعتمدت العديد من المبادرات على الأدوات الرقمية للتنسيق، وجمع المعلومات، وتوجيه المساعدات.

مثلًا، استخدمت بعض المنظمات خرائط تفاعلية لتحديد مواقع النزوح، ورصد أعداد الأسر المحتاجة، وترتيب الأولويات. كما تم استخدام استمارات Google لجمع بيانات المستفيدين، أو تحليل بيانات احتياجات المجتمعات عبر لوحات تحكم إلكترونية. ولعبت المنصات مثل Zoom وSlack وNotion دورًا في تنظيم العمل التطوعي وتدريب الفرق الميدانية عن بعد.

الهوية الثقافية السودانية في العصر الرقمي

لا يقتصر تأثير التحول الرقمي على السياسة والخدمات، بل يمتد إلى الجانب الثقافي. في وقت الحرب، ووسط التشظي والانقسام، لجأ كثير من السودانيين إلى استخدام الفضاء الرقمي للتعبير عن هويتهم الثقافية. انتشرت مقاطع شعرية، أغانٍ تراثية، روايات قصيرة، وفنون بصرية رقمية تعكس معاناة الناس، وتحفظ صوت الإنسان السوداني وسط الضجيج العالمي.

الفن الرقمي، مثل الرسم عبر التابليت، أو التصوير الصحفي على الهواتف، أو حتى حملات «الوعي بالموروث السوداني» على منصات مثل إنستغرام، كلها ممارسات تسهم في صيانة الذاكرة الجماعية، وتعزز الانتماء الوطني في زمن الانهيار.

ما بعد الحرب يمكن أن يشهد ازدهارًا لهذه الثقافة الرقمية، من خلال إنشاء أرشيف رقمي وطني يشمل الموسيقى، الوثائق، الصور، والفنون، ويكون مفتوحًا للباحثين والأجيال القادمة، ويوثّق لتجربة السودان كما عاشها الناس لا كما ترويها النشرات الرسمية.

توصيات استراتيجية للتحول الرقمي ما بعد الحرب

حتى يكون التحول الرقمي في السودان فعّالًا وشاملًا، لا بد من تبنّي خطة وطنية واضحة تنطلق من الواقع، وتؤسس للمستقبل. إليك بعض التوصيات:

1. إنشاء هيئة وطنية للتحول الرقمي تضم خبراء من داخل السودان وخارجه، وتضع خارطة طريق مدتها عشر سنوات لتطوير الخدمات الرقمية.

2. إطلاق مبادرات شاملة للتدريب الرقمي تستهدف الشباب، والنساء، والنازحين، لتعزيز المهارات الأساسية في استخدام الحاسوب، الإنترنت، وبرامج الإنتاج.

3. توفير بنية تحتية ذكية تشمل تحسين تغطية الإنترنت، وإدخال تقنيات الطاقة البديلة، لضمان تشغيل المراكز الرقمية في المناطق الريفية.

4. تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص العالمي لجذب الاستثمارات في التكنولوجيا، وبناء منصات سودانية منافسة.

5. صياغة قوانين لحماية البيانات والخصوصية، تضمن الثقة في المنظومة الرقمية، وتمنع التجسس والرقابة التعسفية.

في الختام، ينبغي التأكيد على أن العصر الرقمي ليس مجرد نقلة تقنية، بل هو تحوّل حضاري يعيد تشكيل طريقة تفاعلنا مع العالم، ومع مؤسساتنا، ومع أنفسنا. وفي الحالة السودانية، حيث الحرب تمزق الجغرافيا وتُضعف الدولة، يمكن للرقمنة أن تمثّل الشريان الموازي الذي يربط المواطنين ببعضهم، ويحافظ على الحد الأدنى من الوظائف المجتمعية.

الأدوات الرقمية وحدها لا تصنع السلام ولا تبني الأوطان، لكنها قادرة على توفير الوسائل والبيئة اللازمة للقيام بذلك. من هاتف محمول في يد لاجئ يبحث عن ملاذ آمن، إلى حاسوب صغير في يد طالبة تتابع دروسها من داخل معسكر نازحين، تتجلى قدرة التكنولوجيا على الصمود، والاستمرار، والإبداع. السودان يمتلك فرصة نادرة لإعادة البناء بأدوات جديدة وروح جديدة. فعصر ما بعد الحرب لن يُبنى بالأدوات نفسها التي سبقتها، بل بعقول رقمية، وأفكار منفتحة، ومنصات تربط ولا تفصل. فلنُعد رسم خارطة الوطن… هذه المرة على لوحة رقمية، لكن بروح سودانية أصيلة. 

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *