السودان على خريطة البيتكوين: ثالث أرخص دولة للتعدين

86
محمد كمير جاهز

محمد كمير

خبير اقتصادي

• يضع تقرير نشره موقع Visual Capitalist بعنوان “The Cost of Mining Bitcoin in 198 Different Countries” السودان في موقع متقدم على خريطة العملات الرقمية، حيث جاء في المرتبة الثالثة عالميًا بين أرخص الدول لتعدين البيتكوين، بتكلفة لا تتجاوز 3970 دولارًا لإنتاج عملة واحدة، في حين يبلغ المتوسط العالمي أكثر من عشرين ألف دولار. التقرير الذي استند إلى بيانات GlobalPetrolPrices أظهر أن السودان يملك ميزة تنافسية طبيعية في هذا القطاع الناشئ، لكن استثمارها يظل رهين رؤية اقتصادية واضحة.

انخفاض أسعار الكهرباء هو العامل الأول الذي يفسر هذه المكانة. فالكيلوواط/ساعة في السودان لا يتجاوز 0.006 دولار للاستهلاك المنزلي، و0.029 دولار للاستهلاك التجاري، وهي أرقام ضئيلة إذا ما قورنت بدول أخرى. هذه التكلفة المنخفضة تجعل السودان في مصاف دول مثل إيران التي تعتمد على الغاز المدعوم، وإثيوبيا التي تركز على الطاقة الكهرومائية. لكن الفارق أن السودان، رغم إمكاناته الكبيرة في الطاقة الكهرومائية والشمسية والرياح، ما زال بعيدًا عن استثمارها بشكل كامل ومنظم.

هذه الميزة يمكن أن تتحول إلى فرصة استراتيجية إذا تم توظيفها بطريقة عقلانية. فالحكومة تستطيع أن تضع تشريعات واضحة لتنظيم التعدين الرقمي، بدءًا من إصدار التراخيص وتحديد الضرائب، مرورًا بوضع ضوابط لاستيراد أجهزة التعدين، وصولًا إلى إنشاء مناطق اقتصادية خاصة لتعدين البيتكوين تعتمد على الطاقة المتجددة. مثل هذه الخطوات من شأنها أن تجذب استثمارات خارجية وتوفر للسودان مصدرًا مهمًا للعملة الصعبة، وهو ما يحتاجه الاقتصاد في ظل التحديات الراهنة.

أما القطاع الخاص، فالمجال أمامه واسع للاستفادة من انخفاض التكلفة عبر إقامة مزارع تعدين قرب محطات التوليد الكهرومائي أو في مناطق تتمتع بإشعاع شمسي قوي. ويمكن أن تتوسع هذه المشاريع إلى إنشاء مراكز بيانات متطورة تقدم خدمات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، بحيث لا يقتصر العائد على البيتكوين وحده، بل يشمل بناء صناعة رقمية متكاملة. هذه الاستثمارات يمكن أن تخلق وظائف جديدة وتفتح المجال أمام الشباب السوداني لدخول مجالات التكنولوجيا المالية والبلوكتشين والأمن السيبراني.

لكن في المقابل، لا بد من الإشارة إلى التحديات الواقعية. فشبكة الكهرباء الوطنية تعاني من ضعف في التوزيع وكثرة الانقطاعات وارتفاع نسبة الفاقد، مما يضعف من استقرار أي مشروع يعتمد عليها. كما أن السياسات الاقتصادية غير المستقرة، مثل رفع الدعم أو تعديل الأسعار بصورة مفاجئة، تمثل مخاطر إضافية أمام أي استثمار طويل الأمد. هذه التحديات تجعل المستثمرين يترددون ما لم يكن هناك إطار قانوني وتنظيمي يضمن الشفافية والاستقرار.

النماذج الدولية تقدم دروسًا مهمة في هذا السياق. ففي إيران، أدى غياب الاستقرار التشريعي إلى إغلاق مزارع تعدين عدة رغم وفرة الكهرباء. أما إثيوبيا، فركزت على ربط التعدين بالطاقة الكهرومائية لضمان الاستدامة البيئية واستقرار التوليد. السودان يمكنه أن يستفيد من هذه التجارب بأن يوازن بين استغلال ميزة انخفاض التكلفة ووضع ضوابط تشريعية واقتصادية تضمن استمرارية الاستثمار.

ولتحويل هذه الميزة إلى واقع ملموس، هناك مجموعة من التوصيات العملية. أولًا، تأسيس صندوق وطني للتعدين الرقمي والطاقة المتجددة، يكون أداة لتمويل المشاريع الكبرى وضمان شراكة بين الدولة والقطاع الخاص. ثانيًا، إدراج شركات التعدين الأهلي والخاص والحكومي في سوق الخرطوم للأوراق المالية، بما يتيح للمواطنين والمستثمرين المشاركة في هذا القطاع الواعد. ثالثًا، ربط أنشطة التعدين بمشروعات التحول الرقمي الوطني، مثل إنشاء مراكز بيانات وحلول حوسبة سحابية، حتى يكون التعدين جزءًا من استراتيجية أوسع لبناء الاقتصاد الرقمي. وأخيرًا، الاستثمار في التعليم والبحث العلمي لتأهيل كوادر شابة قادرة على إدارة وتشغيل هذه الصناعة.

السودان يقف اليوم أمام فرصة تاريخية. فإما أن يستفيد من موقعه كواحد من أرخص بلدان العالم في تعدين البيتكوين ليبني صناعة رقمية تدعم اقتصاده الوطني وتضعه على الخريطة العالمية، أو يترك هذه الميزة تضيع وسط ضعف البنية التحتية وتذبذب السياسات. القرار في النهاية بيد الدولة والقطاع الخاص معًا، لكن المؤكد أن العالم الرقمي لا ينتظر المتأخرين، والسودان بحاجة إلى خطوة شجاعة تضعه في قلب هذه الثورة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *