السعودية والملف السوداني.. قراءة في حكمة الوساطة ورؤية المستقبل
Admin 27 سبتمبر، 2025 28
نجيب عصام يماني
كاتب صحفي سعودي
• يُعَدّ الملف السوداني من أعقد الملفات الإقليمية في السنوات الأخيرة، نظرًا لتشابك العوامل الداخلية مع الأبعاد الإقليمية والدولية، وتقاطعات المصالح الحزبية والقبلية مع أجندات خارجية متعددة. وفي هذا السياق الملتبس، برزت المملكة العربية السعودية كلاعبٍ إقليمي مسؤول، تدير الأزمة بقدرٍ عالٍ من التوازن والحكمة، بعيدًا عن الانفعال أو الانحياز. إن القراءة المتأنية لموقفها الأخير تكشف عن سياسة عميقة الرؤية، تجعل مصلحة السودان واستقراره في مقدمة الأولويات، وتؤكد أن منبر جدة سيظل هو الطريق الواقعي والآمن نحو الحل.
أولًا: منبر جدة كإطار شرعي وفاعل
منذ انطلاق منبر جدة برعاية سعودية–أمريكية، حرصت المملكة على أن يكون هذا المسار منصة جامعة للأطراف السودانية، تُدار فيه المفاوضات تحت مظلة الشرعية الدولية، وبما يحافظ على وحدة الدولة السودانية ومؤسساتها. التمسك بهذا الإطار ليس تشبثًا شكليًا، وإنما هو وعي استراتيجي بأن أي تجاوز له سيؤدي إلى تشظي المسارات، وفتح المجال أمام مبادرات متناقضة، بما يهدد بإطالة أمد الحرب، ويضاعف معاناة الشعب السوداني.
ثانيًا: المصلحة السودانية أولًا
الموقف السعودي الأخير لا يمكن تفسيره باعتباره إحراجًا لأي طرف، بل هو موقف يضع المصلحة العليا للسودان فوق كل اعتبار. فالمملكة تدرك أن الحرب إذا استمرت ستدمر ما تبقى من مقومات الدولة السودانية، وتفتح الباب لانهيار شامل، ستكون له ارتدادات كارثية على الأمن الإقليمي. ومن هنا، فإنها حرصت على ألا تجد نفسها مضطرة مستقبلًا إلى التعامل مع قادة المليشيات على قدم المساواة مع الدولة، وهو ما يخلط بين الشرعية والانفلات، ويقوّض جهود بناء السلام.
ثالثًا: البعد الاستراتيجي الإقليمي
تنظر السعودية إلى السودان باعتباره عمقًا استراتيجيًا للأمن العربي والإقليمي، وخطًا حيويًا للأمن في البحر الأحمر والقرن الإفريقي ومنظومة الخليج. ومن ثم فإنها تعي أن استقرار السودان لا يمثل مصلحة سودانية فقط، بل هو شرط أساسي لاستقرار المنطقة بأكملها. هذا الإدراك جعلها تتعامل مع الملف بروح استباقية، تتجنب ردود الأفعال اللحظية، وتسعى إلى بناء مسار تفاوضي راسخ، يضمن الحد الأدنى من التوافق، ويمنع انزلاق البلاد إلى هاوية التفكك الكامل.
رابعًا: دلالات تأجيل استقبال كامل إدريس
في هذا السياق، يمكن قراءة تأجيل استقبال القيادة السعودية للدكتور كامل إدريس باعتباره تصرفًا محسوبًا بعناية، لا يستهدف شخصه بقدر ما ينسجم مع الرؤية السعودية العامة في إدارة الأزمة. فاستقباله في هذا التوقيت كان سيحمل عدة تداعيات سلبية:
1- إرباك الوساطة السعودية… إذ قد يُفسر الأمر على أنه تبنٍّ لطرف سوداني بعينه، وهو ما يتناقض مع حياد المملكة وحرصها على البقاء وسيطًا مقبولًا من الجميع.
2- إضعاف منبر جدة… لأن الاستقبال كان سيُعطي إشارات خاطئة، مفادها أن هناك قنوات بديلة للتواصل مع السعودية غير منبر جدة، مما قد يشجع أطرافًا أخرى على القفز فوق هذا المنبر والبحث عن مسارات موازية.
3- التأثير على توازن العلاقات.. المملكة تحرص على التعامل مع السودان كدولة ومؤسسات، وليس كأفراد أو مبادرات شخصية، وذلك لحماية مكانتها كوسيط جامع لا كطرفٍ مانح للشرعية السياسية.
إن تأجيل الاستقبال لا يعني رفضًا، بل هو رسالة دبلوماسية فحواها أن أي تواصل يجب أن يتم في إطارٍ منسق، وفي توقيت ملائم، ينسجم مع مجريات الوساطة، ويحمي وحدة الموقف السعودي – الدولي تجاه الأزمة.
خامسًا: ثوابت السياسة السعودية في الوساطة
السياسة السعودية في إدارة الأزمة اتسمت بجملة من الثوابت:
1- الحياد الإيجابي.. عدم الانحياز لطرف مسلح، مع الحفاظ على جسور التواصل مع الجميع.
2- التدرج والحكمة… تفادي القرارات المتسرعة التي قد تجهض الوساطة قبل أن تنضج.
3- الحلول العربية – العربية.. التشديد على أن يكون الحل في محيط السودان الإقليمي، بعيدًا عن استقطابات القوى الدولية.
4- المصداقية… الحرص على أن تظل المملكة وسيطًا يحظى بالثقة والاحترام، لا طرفًا في الصراع.
الرسالة التي بعثتها المملكة العربية السعودية واضحة: السلام في السودان يبدأ وينتهي عبر منبر جدة. وتأجيل استقبال أي شخصية سودانية خارج هذا الإطار هو قرار يتسق مع هذه الرؤية، ويعزز مصداقية الوساطة السعودية، ويؤكد أن المملكة لا تبحث عن الأدوار الشكلية، بل عن الحلول الواقعية.
وبذلك، أثبتت القيادة السعودية مرة أخرى أنها تتصرف بحكمة وبعد نظر، وأنها لا تسمح بأن تُستغل وساطتها أو يُساء تأويل خطواتها، لتظل جدة هي المنبر الجامع الذي يعكس حرص المملكة على السودان شعبًا وأرضًا ودولة.
شارك المقال