الذين ماتوا قهراً دون مرض: صرخة مكتومة في وجه العالم

147
فيصل فضل المولى جديد

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

مدخل إنساني إلى المأساة

• في السودان، هناك موت لا يُدوَّن في الإحصاءات، ولا يُذكر في نشرات الأخبار، لكنه يحدث كل يوم بصمتٍ ثقيل. إنه موت القهر، ذلك الذي يبدأ في الصدر وينتهي في القلب، دون طلقة ولا جرح ظاهر. كبار السن في السودان لم تقتلهم الحرب فقط، بل قتلهم الشعور العميق بالعجز، والإحساس بأن الوطن الذي أحبوه صار غريبًا عنهم. إنهم الذين ماتوا دون مرض، لأن أرواحهم لم تعد قادرة على تحمّل ما ترى.

ويُروى في البادية السودانية أن رجلاً كان له جمل يلازمه منذ صباه، يطعمه بيده ويحادثه كما يُحادث الرفيق. وفي يومٍ قائظٍ، رفض الجمل النهوض بعد تعبٍ طويل، فغضب الرجل وضربه بعصاه، ثم مضى عنه وهو يلعنه. لكن الجمل ظلّ ينظر إليه بعينين دامعتين، كأنهما تنطقان بالعذر والخذلان معًا. بعد ساعات عاد الرجل يبحث عنه، فوجد الجمل قد مات. جلس بجواره يبكي بحرقة وهو يردد: «لو كنت أعلم أن الجمل يُقهر كما الإنسان، ما قهرته».

ومنذ ذلك اليوم، لم ينهض الرجل من فراشه، وظلّ يذوي ببطء، حتى مات بعد أسابيع قليلة، لا بمرضٍ ولا بجُرح، بل بندمٍ أثقل من الجسد.

هذه الحكاية البدوية التي تناقلها الناس في الريف السوداني تختصر مأساة وطن بأكمله. الجمل هو السودان المنهك الذي تحمّل من أبنائه القهر والغضب، والرجل هو السوداني الطيب الذي لم يدرك فداحة ما فقد إلا بعد فوات الأوان. مات الجمل حين فقد الأمل، ومات الرجل حين أدرك ذنبه. وهكذا، يموت الناس في الحروب ليس فقط حين يُصابون، بل حين يُرهقهم الندم والقهر.

الحرب التي كسرت قلب الشيوخ

منذ اندلاع الحرب الأخيرة، تغيّر وجه السودان. المدن التي كانت تضجّ بالحياة تحوّلت إلى خرائب، والقرى التي كانت تضحك بالأطفال غمرها الصمت. في كل حيٍّ وقرية، ترى وجوه الشيوخ الذين جلسوا أمام بيوتهم المحترقة أو هاجروا إلى مدنٍ لا يعرفونها، يحدقون في الأفق وكأنهم ينتظرون شيئًا لن يعود.

لم يقتلهم الرصاص، بل الإحساس بالعجز. من عاش عمره يزرع الأرض أو يبني بيتًا لأبنائه، لا يحتمل أن يرى ثمرة عمره تتحطم في لحظة. من علّم أبناءه الكرامة، لا يقدر أن يراهم يتسوّلون الأمان في الملاجئ. لذلك مات كثير من كبار السن دون أن يُصابوا بمرضٍ عضوي، لأن القهر وحده كان كافيًا لإيقاف القلب.

القهر كمرضٍ خفي

في لغة الطبّ الحديث، هناك ما يُعرف بـ»متلازمة القلب المنكسر»؛ حالةٌ تصيب الإنسان حين يتعرّض لصدمةٍ عاطفية حادة، فيتوقف القلب فجأة، وكأنه تعب من الصبر. لكن في السودان، القهر لم يكن حادثةً عابرة، بل مرضاً وطنياً مزمناً. كبار السن الذين عاشوا الاستقلال، والانقلابات، والثورات، والحصار، كانوا يحمّلون قلوبهم فوق طاقتها. وعندما اندلعت الحرب الأخيرة، شعروا أن التاريخ عاد ليعاقبهم من جديد.

كانوا يهمسون في مجالسهم: «نحن تعبنا من الصبر… لكن الصبر ما نفع».

لم تكن كلمات عابرة، بل نبوءة. فقد رحل كثيرون بصمتٍ في الأيام التالية، وكأن قلوبهم قررت أن تنسحب من حياةٍ لم تعد تشبههم.

الشيخ الذي مات مبتسماً

في إحدى قرى الجزيرة، ظلّ رجل مسن يجلس كل صباح أمام أنقاض منزله، يردد بثقةٍ هادئة: «الحرب دي بكرة بتخلص». كان يبتسم لأحفاده رغم الجوع، ويقسم أن السودان لا يموت. وفي صباحٍ من الأيام، وُجد ممدداً على الأرض، مبتسماً كما لو أنه رأى في لحظته الأخيرة حلماً جميلاً. الطبيب قال إنه لم يكن مريضاً، لكن قلبه توقف فجأة. من حوله قالوا: «مات قهراً، لكنه مات على أمل».

تلك القصة الصغيرة تلخّص روح كثيرين من جيلٍ آمن أن الخير لا بد أن يعود، حتى لو لم يروه. لكن الحرب لا ترحم من يصدق، بل تكافئ الطيبين بالخذلان.

حين يتحوّل الصمت إلى مرض

القهر في السودان لا يُعلن نفسه. كبار السن لا يشتكون كثيراً، لكن وجوههم تقول ما لا يُقال. البعض توقف عن الكلام، عن الأكل، عن النوم. كأنهم انسحبوا ببطء من الحياة. يسمي علم النفس هذه الحالة «الانسحاب الصامت»، وهي مرحلة متقدمة من الاكتئاب الناتج عن الفقد المتكرر.

في الحروب، يفقد الإنسان ليس فقط بيته وأمانه، بل معنى وجوده. كبار السن في السودان وجدوا أنفسهم غرباء في وطنهم، بعد أن صار كل شيء حولهم مؤقتاً: البيوت، الناس، وحتى الأمل.

انهيار الصحة والكرامة

انهيار النظام الصحي في السودان جعل من القهر قاتلاً حقيقياً. المستشفيات أُغلقت، والأدوية اختفت، والأطباء نزحوا. كبار السن الذين كانوا يعتمدون على أدوية القلب والضغط والسكري انقطع عنهم العلاج، فماتوا في صمت.

لكن موتهم لم يكن فقط بسبب غياب الدواء، بل لأنهم فقدوا الرغبة في الاستمرار. لم يعد لديهم ما ينتظرونه. كان موتهم احتجاجاً صامتاً على عالمٍ فقد الرحمة.

القهر الجمعي وفقدان الوطن

ما يحدث ليس قهراً فردياً، بل قهرٌ جمعيٌّ يغمر الوعي السوداني كله. جيلٌ كامل يرى وطنه يضيع أمام عينيه، دون أن يستطيع إنقاذه.

الوطن بالنسبة لهؤلاء الشيوخ لم يكن خريطة، بل حكاية. كانوا يروون للأحفاد قصصاً عن النيل، والمطر، والكرامة، وعن السودان الذي كان. وحين رأوا تلك الحكايات تتحول إلى رماد، شعروا أن جزءاً من أرواحهم احترق معها.

في علم النفس الاجتماعي، يُعتبر فقدان الوطن من أعمق أنواع الفقد، لأنه يفقد الإنسان جذوره ومعناه. ومن يفقد المعنى، يفقد القدرة على البقاء. لذلك ماتوا قهراً، لأنهم لم يحتملوا رؤية أحلامهم تموت.

غياب الاعتراف وواجب التوثيق

في شهادات الوفاة يُكتب: «وفاة طبيعية»، لكن لا شيء طبيعي في أن يموت إنسان لأنه رأى بيته يُنهب أو ابنه يُقتل أو وطنه يتفتت أمام عينيه. هذا النوع من الموت ليس قدراً بيولوجياً، بل نتيجة مباشرة لعنفٍ طويل المدى لم يُدوَّن في السجلات. فالقهر، حين يُترك بلا اعتراف، يصبح جريمة صامتة لا تقلّ خطراً عن القنابل. يجب أن نُدرج هذه الوفيات ضمن خرائط الحرب غير المرئية، وأن نعاملها كجزء من الذاكرة الوطنية، لا كحالات فردية عابرة.

من واجبنا، نحن الأحياء، أن نحفظ أسماء الذين ماتوا قهراً كما نحفظ أسماء الشهداء. أن نروي قصصهم في الكتب والمناهج، وفي الأغاني التي تُغني للحياة رغم الموت. فالتاريخ لا يُكتب فقط بمن سقطوا في الميدان، بل أيضاً بمن انكسروا في بيوتهم، لأن الانكسار شكلٌ آخر من البطولة الصامتة. ومن دون توثيق هذا الألم، سنكرر مأساته جيلاً بعد جيل، وكأن القهر لا يحتاج إلى شاهد.

بين الطبّ والوجدان

الطبّ يفسر القهر بلغة الكيمياء والهرمونات وضغط الدم، فيتحدث عن هرمون الكورتيزول الذي ينهك القلب، وعن الشرايين التي تضيق من التوتر، وعن المناعة التي تضعف حين تطول المعاناة. لكنه لا يرى ما يراه الوجدان. فالعلم يقيس المؤشرات الحيوية، بينما الوجدان يقرأ المؤشرات الخفية في العيون وفي الصمت الطويل. في السودان، نقول عن من مات بعد فاجعة: «انكسر قلبه.» وهذه العبارة الشعبية تختصر علماً كاملاً في جملة واحدة. لأن القلب حين ينكسر فعلاً، لا تُصلحه أقراصٌ ولا أجهزة.

العلم قد يشرح كيف يموت الإنسان، لكنه لا يعرف لماذا يختار الموت. وحده الوجدان يفهم أن القهر ليس مجرد اضطرابٍ في الضغط أو نبضةٍ زائدة، بل حالة انسحابٍ روحيّ من عالمٍ لم يعد يحتمل. فحين تتجاوز الصدمة قدرة الروح على الصبر، يتحول الجسد إلى ظلٍّ بلا طاقة، وتصبح الحياة نفسها حملاً ثقيلاً يضعه القلب جانباً بهدوء، كما يضع المسافر حقيبته الأخيرة.

نحو وعي جديد بالحزن

الحزن السوداني ليس ضعفاً، بل نُضج روحيٌّ مؤلم. هو إدراك عميق لعبث الحروب ودوائرها. حين يموت الشيوخ بصمت، يجب أن نسأل: ما الذي جعلهم يختارون الرحيل بدل التحمّل؟

ربما لأنهم رأوا أن ما يُدمَّر اليوم لا يمكن ترميمه في عمرهم القصير، وأن الوطن الذي عرفوه لم يعد موجوداً.

لكن واجبنا أن نُكمل عنهم الطريق، أن نحول حزنهم إلى وعي، وأن نبني وطناً يليق بصبرهم.

الذين ماتوا قهراً دون مرض ليسوا أرقاماً في الظل، بل وجوهٌ حملت عبءَ البلاد حتى آخر نفس. ماتوا لأنهم لم يحتملوا رؤية وطنٍ يُكسر، وحلمٍ يُدفن، وعدالةٍ تتبخر. لم يطلبوا سوى أن يموتوا بسلامٍ في أرضهم، لا في المنافي ولا في الخوف.

موتهم ليس عبثاً، بل شهادة على أن القهر يمكن أن يقتل كما تقتل الحرب، وأن الظلم حين يطول يُصبح قاتلاً بطيئاً.

إنهم صرخة مكتومة في وجه العالم، تقول: لسنا ضحايا فقط، بل شهودٌ على زمنٍ فقد إنسانيته.

ولعلّ ذكرهم، وكتابة حكاياتهم، هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ ما تبقّى من روح السودان، حتى لا يموت مرة أخرى، قهراً، في ذاكرة النسيان.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *