
محمد كمير
خبير اقتصادي
• تشهد الأسواق العالمية في الفترة الأخيرة حالة من الترقب تجاه أسعار الذهب مع تزايد التوقعات بوصوله إلى 4000 دولار للأونصة خلال العام المقبل. هذا التفاؤل يستند إلى إجماع عالمي تقريبًا على أن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يتجه نحو خفض أسعار الفائدة في اجتماعاته القادمة، وهو ما يعد العامل الأهم في دفع الذهب إلى مستويات غير مسبوقة. فمع كل خفض للفائدة تتراجع جاذبية السندات والأدوات الاستثمارية التقليدية، ليتحول المستثمرون إلى الذهب كملاذ آمن يحفظ القيمة في ظل التضخم والمخاطر الاقتصادية العالمية.
الأوضاع الجيوسياسية بدورها تزيد من دعم هذا السيناريو، حيث تظل الحرب الأوكرانية الروسية نقطة ضغط على استقرار الأسواق، إضافة إلى التوترات التجارية المتجددة التي يلوح بها الرئيس الأمريكي السابق ترامب عبر سياسات جمركية جديدة. هذه الأحداث مجتمعة تعزز الطلب على الذهب سواء من الأفراد أو البنوك المركزية التي عادت بقوة إلى شراء المعدن النفيس.
بالنسبة للسودان، فإن انعكاسات هذا الصعود المحتمل لأسعار الذهب ستكون مزدوجة. فمن ناحية، يشكل الذهب المورد الأول للعملات الأجنبية بعد تراجع الصادرات النفطية والسلعية الأخرى، وبالتالي فإن أي ارتفاع في أسعاره عالميًا يعني زيادة مباشرة في عائدات البلاد من الصادرات. هذا قد يمنح الاقتصاد السوداني متنفسًا في ظل أزماته الخانقة وتراجع قيمة الجنيه، كما قد يسهم في تخفيف عجز الميزان التجاري وتوفير قدر أكبر من الاحتياطيات النقدية.
لكن الوجه الآخر للأمر يتمثل في تحديات إدارة هذه الموارد. فمعظم إنتاج الذهب في السودان يتم خارج القنوات الرسمية أو عبر التهريب إلى دول الجوار، وهو ما يقلل بشكل كبير من استفادة الاقتصاد الوطني من الارتفاعات السعرية. فإذا لم تنجح الحكومة في إحكام سيطرتها على الإنتاج والتصدير وضمان دخول العائدات عبر القنوات الرسمية، فإن الارتفاع العالمي قد يتحول إلى فرصة ضائعة. بل وقد يفاقم الأزمة إذا أدى إلى زيادة التهريب وتنامي السوق السوداء للعملة المرتبطة بالذهب.
كما أن الارتفاع الكبير في أسعار الذهب سيؤثر على السوق المحلي داخل السودان، حيث يعتبر الذهب أداة ادخار رئيسية للأسر، ما يعني ارتفاع أسعار المشغولات الذهبية بشكل غير مسبوق وصعوبة الوصول إليها. وهذا قد يدفع المواطنين أكثر نحو المضاربة والتخزين بطرق غير منظمة، وهو ما يزيد من تقلبات السوق المحلية.
ولكي يتحول الذهب إلى رافعة حقيقية للاقتصاد السوداني على المدى القصير، لا بد من اتباع خطة عملية تبدأ بتشديد الرقابة على التعدين التقليدي ومنع تهريب الذهب عبر الحدود، مع تشجيع المنتجين بحوافز لببيع صادراتهم عبر بنك السودان المركزي بأسعار مجزية لتقلل من دوافع التهريب. كما يمكن إنشاء بورصة ذهب محلية شفافة تربط المنتجين بالمشترين العالميين بشكل مباشر، ما يعزز العائدات الرسمية. وفي ذات الوقت، يجب التفكير في تخفيف الضغط على الجنيه السوداني وتحسين الثقة في الاقتصاد. هذه الإجراءات، وإن بدت بسيطة، يمكن أن تخلق فارقًا كبيرًا في ظرف عام واحد إذا ما نُفذت بصرامة وحُسن إدارة.
من هنا، فإن وصول الذهب إلى 4000 دولار للأونصة كما تشير التوقعات العالمية لا ينبغي أن يُقرأ فقط كخبر إيجابي للاقتصاد السوداني، بل كجرس إنذار أيضًا. فالفرصة حقيقية لتعزيز موارد الدولة إذا ما أحسنت الإدارة والسيطرة على الصادرات، لكنها قد تتحول إلى عبء إضافي إذا استمرت سياسات الفوضى والتهريب. في النهاية، يظل الذهب نعمة قد تنقذ الاقتصاد السوداني من أزماته، أو نقمة تعمق اختلالاته إذا ضاعت مكاسبه في جيوب غير الدولة.
شارك المقال